مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكايا من القرايا ” الحريق ” عمر عبد الرحمن نمر

 

نظر أبو صالح في الشجر المحروق، فهطلت دموعه،

بالأمس كان جبلاً كأنه الحدائق المعلقة، أشجار اللوز على السلاسل الحجرية، تطوّق أشجار الزيتون، والمشمش والجرنق، وتتمرد شجيرات الدوالي، وتداعب بقية الأشجار وهي تتعلق بها… حرّك راحتيه ندماً وحزناً… بالأمس كان الجبل صورة ساحرة، يأكل الناس من ثماره ما لذّ وطاب، ويتفيؤون ظلال أشجاره… ويشربون من البير الذي حفر في صخوره الحوّريّة… بالأمس كان… واليوم أصبح قاعاً صفصفاً…

انحرقت أشجاره كلها، وكانت ألسنة النار أطول من أغصان الأشجار، وصوت النار غطّى على صياحه وصياح الناس الذين حمل كل منهم قصفة خضراء، يضرب بها النار علّها تخمد… ولكن النار هجمت على كل شيء، ولم تبقِ ولم تذر… حتى الإطفائية وصلت متأخرة، والنار قد أكلت الجبل كله…

انفرد بنفسه، وقد تجمّدت الدموع في وجهه المحمر من حرارة النار، كما تجمد أيضاً عرقه، وبدأت هواجسه ووساوسه وشكوكه تدور في نفسه، يعالجها عقله… يتساءل معقول أبو العبد هو من قام بالفعل؟ هل تطاوعه نفسه على حريق جبل كامل؟ أيحرق أشجاراً تسبّح ربها صباح مساء؟ ويأكل من ثمرها البشر والطير؟ لا لا … لا يمكن أن يقوم أبو العبد بهذا الفعل؟ يمكن والله… أستغفر الله، إن بعض الظن إثم. أبو السعيد؟ والله يمكن أبو السعيد فهو متهور حد الجنون… مدخن حد الإدمان… يمكن أن يكون قد رمى عقب سيجارة مشتعلة في هذا (الهشير) العشب الناشف، وقد اشتعل وانتقلت النار… آه تذكرت، أبو السعيد مسافر لحضور حفلة زواج ابن أخيه… خليل؟ خالد؟ الحجة شهلة؟ من؟ من؟ يجب أن أعرف غريمي…

ركب حماره وعاد إلى البيت وهو (مش شايف الفضا) أقماره معميّة… يفكر تارة… ويحسب تارة مخاسره السنوية… ويتفقد قوائم الأسماء الذين يشك بهم… ولم يصل إلى نتيجة تهدىء من روعه… صامت لا يتحدث مع أحد من الأسرة… حاولت زوجته مواساته لكنه لم يرد عليها إلا بتمتمات هي بقايا عبارات مقطعة بلا معنى… وضعوا لها العشاء والشاي، وبقي على السدر كما هو… فش نفس للأكل…

تمدد على فرشته، وتحت رأسه مسند قشّيّ ووسادة… حاول النوم… لم يستطع، تستحوذ عليه حساباته ووساوسه…

ضربٌ على خوخة الباب… خرج إلى الباب، وكان أبو فالح، أتى وقد وضع العقال في رقبته… كان حزيناً يرتجف… دلفا إلى الغرفة، جلس على المسند والوسادة، وقال: أنا… أنا… ونزلت دموعه… أنا من حرق الدنيا… خطيّتك في رقبتي… أردت حرق بعض الأشواك فهبت نسمات من الهواء، وانتشرت النيران… ها أنا بين يديك… وعقالي في رقبتي… ومستعد لأي تعويض تطلبه… والله يا أخي لم أكن على وجه الأرض، والنار تقصقص في الأشجار… نزلت دموع الرجل… وعانق أبو صالح أبا فالح، وتناول العقال عن رقبته… وقال له: حضورك عندي يساوي الدنيا كلها… الله يعوض لنا في عافيتنا وصحتنا وسلامة أولادنا… وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث عن الحريق… واحتسيا القهوة… ويا دار ما دخلك شر…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق