مقالات

رواية المرافعة حسام الديك رائد محمد الحواري

“المرافعة” رواية فلسطينية جديدة تتناول سجون الاحتلال والأساليب التي يستخدمها المحتل للحصول على اعترافات، من هنا وضوع الرواية صعب وقاسي، وهذا الأمر يعيه السارد، الذي حاول تخفيف تلك القسوة قدر المستطاع، مفتتحا الرواية بموضوع بداية تشكيل الوعي عند الطفل الفلسطيني، وكيف أن المحتل بسلوكه وممارساته يدفع بالفلسطيني لتكوين فكر وسلوك مضاد للمحتل.
واللافت في مسألة تناول الوعي أن السارد يبدأ الرواية بالحديث عن نفسه، ويختمها بالحديث عن أولاده، وكأنه يؤكد أن المحتل مستمر بعنصريته واحتلاله للأرض الفلسطينية، فهو موجود كمحتل، وهذا يجعل الفلسطيني يقاوم ويدافع عن نفسه وعن أرضه، فالمشكلة ليست عند الفلسطيني الذي يقوم بردة فعل تجاه المحتل، بل المشكلة تكمن في المحتل الذي يقمع ويضطهد ويقتل ويسجن وينغص حياة الفلسطيني.
الاعتقال
بما أننا أمام رواية سجن فلا بد من وصف حالة الاعتقال وكيف تمت، يحدثنا السارد بقوله: “بين جنديين وببطء مفتعل أمشي الآن آخر خطواتي الواصلة إلى الشارع، …قبل أن أتوارى عن نظر أفراد الأسرة أستمع الآن إلى النداء الأخير يدق جدار أذني: بابا اتطولش…في الدواية معصوب العينين، الليل لا يزال سرمديا قبل ولوج الفجر، تتحرك الدورية في طريق العودة إلى حيث لا أعلم” ص47، نلاحظ أن هناك تناول للمكان بطريقة غير مباشرة من خلال توديعه بالمشي البطيء، وإنه مكان مترع بالحياة “بابا اتطولش”، وهذا يأخذنا إلى علاقة الفلسطيني بالمكان وبالاجتماع.
في المقابل نجد عالم آخر مغاير، عالم مجهول، بعد أن يعتقل وتأخذه دورية الاحتلال، وهذا التباين بين الحالتين، يشير إلى حجم القمع الذي يمارس ضد الفلسطيني، فما يحسب للسارد أنه قدم بشاعة الاحتلال من خلال تناوله الحالتين، حالته مع أسرته وكيف يتعاملون معه، وحالته بعد الأسر وكيف حرم من عائلته وأهله وانتزع من مكانه/بيته.
التحقيق
ما يحسب لرواية “المرافعة” أنها تكشف طرق التحقيق التي يتبعها المحتل لانتزاع الاعترافات، فهناك لعبة الشد والرخي، الطيب والشرير، وهناك الترغيب والترهيب، وأيضا استخدام الأهل كعنصر ضغط على الأسير، يبن لنا هذه الأساليب من خلال أحداث الرواية، ونبدأ من طريقة الترغيب:
“ـ حتى أن يداك غير ملطختان بالدم ولديك فرصة لتدارك الأمر” ص65، هكذا يبدأ التحقيق، فيبدو المحقق وكأنه متعاطف مع الأسير، ويريد له السلامة، ,وليس الإيقاع به وزجه في جحيم السجن.
وعندما يتوقف التحقيق والتعذيب لفترة من الزمن يتم استغلالها من قبل المحقق بهذا الشكل: “ـ لقد تركتك ليلة كاملة للتفكير/ هل تذكرت شيئا مهما في موضوع التحقيق وترغيب في تقديمه وإنهاء هذا الملف؟” ص77، إذن المحقق لا يترك أي مجال أمام الأسير إلا ويستغله محاولا كسب ظروف اعتقاله وما يمر به من ضيق نفسي وجسدي.
يحدثنا عن العائلة وكيف يستخدمها المحتل كوسيلة ضغط على الأسير:
“ـ أنت أب مجرم وبلا إحساس وابنك يصاب بالكورونا وحالته الصحية حرجة فالـدعى أن تنتهي التحقيق كي تطمئن عليه” ص82، هكذا حقق “أبو عرب” مع السارد” فاستخدامه اسم عربي جاء منسجما مع طبيعة دورة كشخص طيب يريد الخير والسلام للأسير.
بينما يقوم المحقق “عامير” بدور الشرير، حيث قام: “…نقلني السجان معصوب العينين إلى غرفة أخرى أصغر حجما في وسطها كرسي حديدي مثبت بالأرض، وهذا الكرسي بمكن التحكم به صعودا ونزولا في مدى انحناءة الظهر وارتفاعه عن الأرض، وقد قيدوني به وخرج من الغرفة…صراخ وتهديد وبصاق على الوجه وضغط جسدي من خلال الكرسي متعدد الاستخدامات والوضعيات المؤلمة” ص66 و67، فهنا يظهر المحتل على حقيقته، ويكشف أن أنيابه، ف”أبو عرب” ما هو إلا الوجهة الأخر ل”عامير” وكلاهما يعملان لانتزاع اعتراف من الأسير.
السجن
السجن هو المكان الذي يفقد فيه الإنسان وجوده، لهذا هو أكثر الأماكن كرها وبغضا للإنسان، وبما أن السجن يستخدمه المحتل كوسيلة انتقام وتعذيب للأسير، فقد جعله بهذا الشكل: “..سرداب طويل وضيق على يمينه ويساره زنازين تشبه توابيت الموتى المحصورة في ثلاجات التبريد…إقفال محكم لا يسمح بدخول ومضة من ضوء، جدران رمادية خشنة وفتحة صغيرة بالسقف تسمح بدخول الأوكسجين فقط…على الأرض فرشة إسفنجية رائحتها عفنة تغطي كامل مساحة الزنزانة وهذه المساحة التي لا تتيح لك الاستلقاء التام، إلا بد من ثني الساقيين ” ص49، هذا الوصف كاف لإيصال بشاعة السجن وما يسببه من ضيق وألم على الأسير.
الوقت
غالبية الروايات التي تناولت موضوع السجن تحدثت عن الوقت وكيف أنه عامل ضغط على الأسير، في رواية “المرافعة” نجدها أيضا تتناول الوقت على أنه ميت/كسيح/بليد: “الوقت في الزنزانة منزوع تماما، ولا يمكن لك استشعاره فالعتمة تفرض ثقلها عليك” ص89، نلاحظ أن السارد يجمع ما بين (ضياع الوقت) والعتمة، وهذا يجعل عملية (البحث) مستحيلة، فكيف يمكن أن تجد ما هو مفقود في الظلام؟.
يستنتج السارد حقيقة الوقت في السجن بقوله: ” ـ الزمن يا صديقي تم نزعه بعناية ودقة متناهية، أقصد الزمن هنا الوحدة الزمنية الصغيرة من الثانية وصولا إلى الوحدة الكبيرة وهي اليوم، هذه الوحدات الزمنية وما يقع بينهما منزوعة من وعي الأسير وواقعه، وهو لا يتفاعل معها ولا يشعر بها” ص114و115، هذه حقيقة الزمن/الوقت بالنسبة للأسير، فهو لا يشعر به، لأنه ميت/كسيح لا يتحرك” ص29، هذه الصورة العامة للواقع الفلسطيني، ليس اليوم فحسب، بل منذ أن بدأ الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، مشكلتنا في القيادة وليست في الجماهير.

الأسرى
بما أن الكاتب/السارد أسير، فهو يتحدث عما يحتاجونه بموضوعية ووضوح: “…الناس يخرجون إلى الساحات العامة للتضامن والتأييد بين مناسبة وأخرى، النخب السياسية لا تنفك من التحذير من مغبة المس بقضية الأسرى، المثقفون والشعراء يكتبون لنا قصائد نارية استخدموا مشاعر المستمعين وعواطفهم… ونحن يا صديقي لا نريد تحسين شروط الاعتقال، بل نريد الحرية وهذه الرمزيات لا تصنع حريتنا” ص152، إذن مشكلة الأسرى تتمثل في الحرية والانعتاق من السجون والخلاص من وحشية السجان، هذه هي قضية الأسرى.
الفلسطيني
السارد يتحدث بأكثر من موضع عن الفلسطيني، ويتناوله بحالته السلبية والإيجابية، فيقول عن مشكلة الفلسطيني الأساسية: “أن مشكلتنا ليست في القواعد بل في مراكز القوة وصناعة القرار” ” ص29، هذه الصورة العامة للواقع الفلسطيني، ليس اليوم فحسب، بل منذ أن بدأ الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، مشكلتنا في القيادة وليست في الجماهير.
أما عن مواجهة المحقق الذي يريد الحصول على اعتراف بأي طريقة، يخاطبه السارد بقوله: “ـ عليك أن تتوقف عن التعامل معي مثل البقرة الحلوب تطعمها في الليل لتحلبها في النهار” ص78، فرغم واقع الأسير وما يمر به من ضيق نفسي وألم حسدي إلا أنه صلب ويخاطب المحقق بقوة وصلابة.
وعندما يحصل على مكالمة هاتفية مع أمه ويسمع بكائها على الهاتف، تأخذه عاطفته نحو الحزن ومجاراتها في البكاء، لكنه يوقف المكالمة مستندا على هذه الفكرة: “…فالرجال لا يبكون حتى أمام أمهاتهم فقد تجاوزوا الطفولة” ص84، اعتقد أن هذا الموقف من أكثر المواقف جلدا في الرواية، عدم إتاحة الفرصة أمام الأم لتتكلم، وفي ظرف أحوج ما يكون فيه الإنسان لسماع صوتها.
وعن الأسرى وكيف أنهم محطة إعجاب حتى للسجانين: “…أنهم يفضلون الخدمة العسكرية في السجون الأمنية التي يحتجزون بها الفلسطينيين على السجون المدنية التي يحتجزون فيها السجناء المدنيين الإسرائيليين لأسباب لها علاقة بالنظافة والترتيب التي تتمتع بها السجون الأمنية والأسرى الفلسطينيين، أننا نتفوق عليهم في هذا الجانب” ص ص131و132، ولم يقتصر تميز الفلسطيني هو ضمن المجموع، بل نراه متميز حتى وهو سجين: “…أظن أنني لن أتجاوز العشرة سنوات في الاعتقال رغم أنني محكوم لثمانية مؤبدات والأمل لم يفارقني حتى بعد أن تجاوزت العشرين عاما رهن الاعتقال” ص150، بهذه الروح يوصل لنا “إبراهيم” فكرة الأمل التي يحملها الأسرى، فرغم الأحكام الفلكية التي حكموا بها، إلا أنهم ما زالوا يحملون الأمل بالخلاص والتحرر من هذه السجون، وهذا يأخذنا إلى أنهم موقنين أن السجن والسجان لن يبقوا طويلا، وأن نهايتهم آتية وقريبة.
عنوان الرواية
عنوان الرواية “المرافعة” يأخذنا إلى حقيقة ما يجري في محاكم الاحتلال، وكيف تتعامل تلك المحاكم مع الفلسطيني، يقول السارد عنها: “…أن هذه المحاكم لا تصدر أحكاما بالبراءة ولا تسجل أنها برئت معتقلا فلسطينيا واحدا من تهم نست إليه زورا فالجميع هنا مدانون حتى لو ثبتت براءته” ص132و133، هذه هي الصورة الحقيقية لمحاكم الاحتلال، وكأن السارد يقول أن محاكم الاحتلال ما هي إلا صورية، من هنا نجده يتحدث عن دور المحامين بقوله: “المحامي في هذه المحكمات لا يتعدى دور الوسيط المفاوض على الحكم أو المترجم لا البحث عن البراءة ولا حول ولا قوة له في ذلك” ص35، وهنا يكشف لنا السارد ـ وبعد تجربته وتجارب من سبقوه من الأسرى ـ حقيقة دولة الاحتلال التي تسعى بكل الطرق والوسائل للتضيق على الفلسطيني ومحاسبه على فلسطينيته وعلى بقاءه في وطنه.
خاتمة الرواية
رغم أن الرواية واقعة وتتناول حالة أسير في سجون الاحتلال، إلا أن خاتمها جاءت لتؤكد استمرارية المواجهة مع الاحتلال من خلال ما جاء في مكالمة الأسير وابنته:
” كيف حالك يا بابا، لكنها لم تجبني على سؤالي وقالت:
ـ إنتل يش ما معك معلقة؟
ـ معي يا بابا
ـ طيب ليش ما حفرت معهم وطلعت و‘حنا بنخبيك عنا
ـ المرة الجاي إن شاء الله.
أنا حفظت أغنية بدي أغنيلك إياها لم تروح من السجن
ـ سمعيني إياها
“أتظن أنك قد طمست هويتي
ومحوت تاريخي ومعتقداتي
عبثا تحاول … لا فناء لثائر
أنا كالقيامة ذات يوم آت
أنا مثل عيسى عائد وبقوة
من كل عاصفة ألم شتاتي
سأعود أقد عاشق متمرد
سأعود أعظم أعظم الثورات” ص179، هذه الحوار بين الأسير وطفلته يحمل بين ثنائياه رمزية استمرار المقاومة واستمرارية نهوض الفلسطيني، فهو يعود كما “البعل” العائد بعد الغياب، وبما أن الأغنية/القصيدة جاءت من طفلة، فهذا يشير إلى أنها ستحمل راية والدها كما حمل والدها راية أمه عندما أخبرته عن الأعداء الذين يحتلون الوطن.
بعد عملية التحرر من سجن جلبوع التي قام بها الأسرى الستة، يتم نقل الأسرى إلى سجن نفحة، جاء في آخر فقرة في الرواية: “أتعرف على الزملاء الجدد وجميعهم من أحكام المؤبدات ومن النادر أن تصادف ثلاثة أسرى في نفس الغرفة محكومون بالمربد ويحملون ذات الاسم (يوسف)” ص181،وكأن السارد في هذا المشهد: أن الفلسطيني رغم بطش الاحتلال، ورغم الأحكام العالية، إلا أنه ما زال يقاوم، فإذا كانت غرفة واحدة فيها ثلاثة أشخاص يحملون ذات الاسم، ومحكومون بالمؤيدات فما بالنا ببقية الأسماء!.
الرواية من منشورات الاتحاد العام للكتاب وللأدباء والفلسطينيين، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2023.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق