مكتبة الأدب العربي و العالمي

ورد فى الأثر:- قال الاصمعي

قال الاصمعي ، كنت بالبصرة أطلب العلم ، وأنا فقير وكان على باب زقاقنا بقّال ، إذا خرجتُ باكراً ، يقول لي إلى أين…؟

فأقول إلى فلان المحدّث ، و إذا عدت مساءً يقول لي من أين…؟

فأقول من عند فلان الإخباريّ أو اللغويّ ، فيقول البقال : يا هذا ، إقبل وصيّتي ، أنت شاب فلا تضيّع نفسك في هذا الهراء ، وأطلب عملاً يعود عليك نفعه وأعطني جميع ما عندك من الكتب فأحرقها فوالله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة ، ما أعطيتُك…!

فلما ضاق صدري بمداومته هذا الكلام ، صرت أخرج من بيتي ليلاً وأدخله ليلاً ، وحالي في خلال ذلك ، تزداد ضيقاً ، حتى أضطررت إلى بيع ثياب لي ، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي ، وطال شعري ، وأخلق ثوبي ، وأتّسخ بدني…،

فبينما أنا كذلك ، متحيّر في أمري ، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي فقال لي : أجب الأمير…

فقلت : ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى…؟

فلما رأى سوء حالي وقبح منظري ، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري ، ثم عاد إليّ ومعه تخوت ثياب ، ودرج فيه بخور ، وكيس فيه ألف دينار ، وقال : قد أمرني الأمير أن أُدخلك الحمام ، وأُلبِسك من هذه الثياب وأدع باقيها عندك ، وأطعِمك من هذا الطعام ، وأبخّرك ، لترجع إليك نفسك ، ثم أحملك إليه ،

فسررت سروراً شديداً ودعوتُ له ، وعملتُ ما قال ، ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان ، فلما سلّمتُ عليه…

قرّبني ورفعني ثم قال : يا عبد الملك ، قد سمعت عنك ، وأخترتك لتأديب أبن أمير المؤمنين ، فتجهّز للخروج إلى بغداد…

فشكرته ودعوت له ، وقلت سمعاً وطاعة سآخذ شيئاً من كتبي وأتوجّه إليه غداً

وعدت إلى داري فأخذت ما أحتجت إليه من الكتب ، وجعلتُ باقيها في حجرة سددتُ بابها ، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا تحفظها…

فلما وصلت إلى بغداد دخلت على أمير المؤمنين هارون الرشيد فقال لي : أنت عبد الملك الأصمعي…؟

قلت : نعم ، أنا عبد الملك الأصمعي يا أمير المؤمنين…

قال : إعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه وها أنا أسلم إليك أبني محمداً بأمانة الله فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه ، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً…

قلت السمع والطاعة ، فأخرجه إليّ ، وحُوِّلْتُ معه إلى دار قد أُخليت لتأديبه ، وأجرى عليّ في كل شهر عشرة آلاف درهم فأقمت معه حتى قرأ القرآن ، وتفقّه في الدين ، وروى الشعر واللغة ، و علم أيام الناس وأخبارهم…

وأستعرضه الرشيد فأُعجب به وقال : أريد أن يصلي بالناس في يوم الجمعة ، فاختر له خطبة فحفِّظْه إياها ، فحفّظتُه عشراً ، وخرج فصلى بالناس وأنا معه ، فأعجب الرشيد به وأتتني الجوائز والصِلات من كل ناحية ، فجمعت مالاً عظيماً أشتريت به عقاراً وضياعاً وبنيت لنفسي داراً بالبصرة فلما عمرت الدار وكثرت الضياع ، أستأذنتُ الرشيد في الانحدار إلى البصرة ، فأذن لي…

فلما جئتها أقبل عليّ أهلها للتحية وقد فَشَتْ فيهم أخبار نعمتي وتأمّلت من جاءني ، فإذا بينهما البقّال وعليه عمامة وسخة ، وجبّة قصيرة فلما رآني صاح : عبد الملك…!

فضحكت من حماقته ومخاطبته إيّاي بما كان يخاطبني به الرشيد ثم قلت له : يا هذا ، قد والله جاءتني كتبي بما هو خير من الجَزَره…!

من كتاب ” الفرج بعد الشدة ” للتنوخي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق