الشاعر والقاص والأديب والمفكر الفلسطيني احمد حسين ، ابن قرية مصمص ، الذي فقدناه بالأمس القريب ، وصاحب النشيد الهجري والهوية الكنعانية ، يعد احد الأسماء المهمة ذات الخصوصية المتفردة على لوحة الابداع الادبي الفلسطيني العام ، وفي التاريخ الأدبي الشعري والثقافي والوطني الملتزم ، الذي امسك بخيوط القصيدة الجمالية الرائعة المغايرة الرافضة الحادة الى حد السكين .
فهو صوت فكري شجاع خصب متوقد متميز بنقائه الثوري الخالص من الافتعال والجبن والتأرجح بين الموقف واللاموقف ، بين الالتزامات والمواقف الضبابية الغامضة على ساحة الفعل النضالي المقاوم، وعلى ساحة قضية عادلة وواضحة وضوح الألم والجرح النازف .
عرفنا احمد حسين بمواقفه الحادة الصلبة الشجاعة الجريئة ،العروبية القومية الفلسطينية الاستثنائية المخالفة والمعارضة لكل المواقف والطروحات السياسية والثقافات السائدة ، وهو صاحب مشروع فكري فلسطيني خاص ، له منطلقاته وتوجهاته وابعاده المستقبلية .
فكم كان احمد حسين يجيد السباحة والعوم والتغريد خارج السرب ، والوقوف بشدة ضد طروحات ومشاريع وتخريجات كل التيارات المشتغلة على ساحة العمل السياسي الفلسطيني في الداخل ، ولم يتنازل قط عن صيغه وقيمه الوطنية التي يؤمن بها ويذود عنها .
احمد حسين ، هذا الأديب الاريب السديد والمثقف الصلب المشاكس المشتبك ، والمبدع الأصيل الجميل ، والمفكر الفلسطيني الحر المتوقد المتوهج المشتعل غضباً وحدة ورفضاً ، بثقافته العميقة الواسعة ، التوراتية القرآنية ، لم يكن متصالحاً مع احد حتى مع نفسه وذاته ، رفض التقوقع والتأطير الحزبي والسياسي والأدبي ، وبقي في دائرة الظل باختياره وقناعاته ، رغم موهبته الشعرية التي تتفوق على الكثير من المواهب والكواكب الفلسطينية الكبيرة التي لمع نجمها محلياً وفلسطينياً وعربياً وكونياً ، ورغم غزازة وثراء ما قدمه لثقافتنا الفلسطينية الملتزمة الرافضة للتطبيع والمساومة على الحقوق الثابتة ، وللفكر القومي الفلسطيني المقاوم .
لم يأخذ حقه من الانتشار والشهرة ، وعانى من الحصار الاعلامي والتغييب ، لأنهم خافوه ، خافوا كلمته المتفردة المميزة ذات النكهة الفلسطينية الكنعانية ، وخافوا موقفه النقدي من التطبيع واللهاث وراء المشاريع التفاوضية الاستسلامية الامبريالية الصهيونية ، وخافوا فكره الثوري المقاوم وابداعه الملتزم وطنياً وفلسطينياً وكنعانياً ، وفزعوا طروحاته ومداخلاته التي لا تقبل المساومة على حق العودة والحقوق الثابتة الراسخة ، وترفض التوجهات التنازلية المجانية على الساحة الفلسطينية .
لم يكتب عن احمد حسين الكثير في حياته سوى بعض شذرات هنا وهناك ، من صديقه ورفيق دربه ومجايله المرحوم نواف عبد حسن ، الذي خصه بكتابة مقدمات منجزاته الشعرية والقصصية والفكرية ، وتناول ديوانه ” زمن الخوف ” حين صدوره ، حيث كتب دراسة وافية ومراجعة استعراضية نقدية نشرت آنذاك في مجلة ” البيادر الأدبي ” وفي مجلة ” مشاوير ” منوها فيهاالى ان احمد حسين يعاني الشعر لحد ” مرض القلب ” ولهذا نحس بانفعال ، بعنف الانفعال وحرارة العاطفة ، فالكلمة جارحة وحادة ، تقفز بين الاسطر لتصفعنا في وجوهنا لانها تجد طقساً وتنبعث شعوراً ، وتستحضر تاريخاً .
ولعلني اسمح لنفسي باقتطاف هذه السطور من باقة المرحوم نواف عبد حسن النقدية ، ومن الاستهلال الذي افتتح به دراسته عن زمن الخوف ، حيث قال : ” لعلها المصادفة أن تأتي النغمة الاولى في صورة الحضور الواعي والادراك الواضح للمأساة ، ومن ثم الانطلاق في تحديد هذا الوعي صافياً من البله والغباء ، معرياً وكاسراً لمرايا الكفاح المزيف ، والنضال المقنن …الذي جعل من القضية التي يستشهد الشجعان من اجلها مهرجاناً على لسان كل من جمجم ببعض الكلمات عن الوفاء والتضحية ، فهنا تكون المواجهة مع هذا الجو الموبوء امراً محتوماً … وهل هناك ابشع من هذا في وقت يصل فيه الزنى الحضاري ، والعهر السياسي الى حد تصفية شعب فلسطين وطنياً وجسدياً ؟!..وفي كل بقاع الارض ؟حتى صار الطفل الفلسطيني ” يحلم الا يقتل ” ، والمرأة الفلسطينية “حبلى بالدبابات ” ، عندها تكون مهمة الشاعر الموهوب ، أن يتجسد رمزاً لهذا الشعب ، يكشف بالرؤى النبوئية معسكرات الليل المرعبة ، وبالصوت الثائر والكافر بكل القيم والمثل الحضارية والسياسية ، و” بعواء الذئاب ” في الكتب المقدسة ، وجميع الادعاءات البطولية ما عدا معانقة المعشوقة ( الارض) في الزمان ، وفي المكان ( تاريخياً وجغرافياً ) “.
واذا كان هذا الكلام قيل في اواخر السبعينات من القرن الماضي ، فانه استشرف وتنبأ بالمرحلة الحالكة التي نعيشها ، وعبر عنها ايما تعبير ، حيث تغتال القضية الفلسطينية ويذبح شعبنا وتهان كرامته ويعيش انقساماً جغرافياً وحدودياً وشعبياً ووطنياً ومواقفاً ، وتصفى حقوقه ..!!
وما اشبه اليوم بالبارحة ، في زمن الخوف والعهر الفكري والسياسي والسقوط الأخلاقي ..!!!
وبالاضافة الى ما كتبه ونشره نواف ، فكاتب هذه السطور شاكر فريد حسن وثق سيرته الادبية والشعرية والنضالية ، وراجع بعض كتبه ، واحتفى بعودته الى ربة الشعر وملكة الابداع بعد صمت طويل ، فكان يطيل فترات الانقطاع عن الكتابة والنشر لعدم توفر المنابر الحرة الشريفة النظيفة التي لا تشرب ولا ترتشف من ابار المال النفطي الخليجي ، ولا ترتهن للبترودولار ، وسلط الضوء على قصيدته عن مخيم جنين الموسومة ” نشيد الزمن الهجري ” التي نحس فيها بالذات والروح الانسانية التي تحاول ان تحلق وتطلق روحها لنتلمس بشفافية مكامن المذبحة في المخيم التي استهدفت الانسان الفلسطيني ، ارضاً وشعباً ووجوداً وثقافة ومقاومة ومستقبلاً ، والتي انتهت بالتأكيد على مواصلة السير بخطى حثيثة ثابتة وواثقة وسط دياجير الظلام والقهر الانساني ، الى جانب عربة بائع التفاح ابن المخيم ، مروراً بماء بدر وصولاً الى سفوح كنعان ..!
في حين كتب الدكتور محمود رجب غنايم عن الانتماء والعدمية في ديوانه ” زمن الخوف ” صمن مقال نشره في حينه على صفحات مجلة ” مشاوير ” ، مؤكداً على انه بهذا الخوف والسوداوية تتجسد قصائد احمد حسين كلها ، فيتحول هذا كله الى جداول تعب في نهر كفر ورفض ..!
بينما ا. د فاروق مواسي فيقرأ قصيدته ” عن المخيم والقبيلة ” مشيراً الى ان ” ثمة مواصفات غامضة غريبة في القصيدة ، وهي عجيبة تهز المشاعر وتثيرها في رعشة … تصحو بعدها ، ونسأل : من هم هؤلاء الرجال الذين تهرب منهم الأيام وتتمرد عليهم الثواني ؟! هل هم الشعراء الآخرون ( حساسين البغايا ) ؟ هل هم البائعون الذين عندهم ما ليس عندك ؟ هل هم القبائل …ممثلة بسياسة الدول العربية ؟
اما الشاعر سامي ادريس من الطيبة فكتب عن زناطم احمد حسين ، الذي زامله في مدرسة مصمص الابتدائية وعرفه عن كثب ، فقال : ” احمد حسين لا يأبه للتعتيم الاعلامي المفروض عليه وعلى زمرة من شعرائنا الأحرار ، ويؤمن أن البقاء للكلمة الصادقة ، وان سفهاء الكلام وأدباء السلطان الذين يتلاعبون بالالفاظ الوطنية تلاعباً شكلياً ليكسبهم الشهرة الممجوجة ، سيظلون على هامش التاريخ ، فظل احمد حسين في الظل في قريته الجبلية الشامخة بينما هم ينهشون جثة الأدب باظفارهم واسنانهم .”
لقد صدق صديقي الشاعر سامي مهنا في قوله غداة رحيله :” احمد حسين ستكشفه الأجيال اللاحقة بعد ان يغربل الزمن شوائبه وسيعود هذا الابداع الاستثنائي الى مركز الاهتمام العميق الضيق البعيد عن حالات الفوضى التي تصبغ الحقائق في زحام الوسطية وثقافة الزيف “.
احمد حسين مبدع حقيقي واستثنائي لم ينصفه النقد في حياته ، ولا حملة الشهادات الاكاديمية واصحاب الالقاب الذين يعيشون في ابراجهم العاجية ، الذين هابوه وارتعدت عجائزهم من قلمه ومداده وحبره وحدة لسانه ، فهل ينصفه التاريخ يا ترى في موته ..؟!!