شعر وشعراء
نافذة على الشعراء العرب / بقلم خالد خبازة
نافذة على الشعراء العرب
الشاعر الأول
الأحوص الأنصاري
عبدالله بن محمد بن عبدالله بن عاصم الأنصاري ، من بني ضبيعة ، لقب بالأحوص لضيق في عينه .
شاعر اسلامي أموي هجاء ، صافي الديباجة ، من طبقة جميل بن معمر و نصيب ، و كان معاصرا لجرير و الفرزدق .
كان من سكان المدينة ، وفد على الوليد بن عبدالملك في الشام فأكرمه ، ثم بلغه عنه ما ساءه من سيرته ، فرده الى المدينة ، و أمر بجلده فجلد ، و نفي الى دهلك و هي جزيرة بين اليمن و الحبشة ، كان بنو أمية ينفون اليها من يسخطون عليه ، و بقي فيها الى ما بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز ، و أطلقه يزيد بن عبدالملك ، فقدم دمشق و مات بها سنة 105 هجرية الموافق 723 ميلادية .
و كان حماد الراوية يقدمه في النسيب على شعراء زمانه .
استجاد ابن الأعرابي قول الأحوص ، من البسيط و الفافية من المتراكب :
النفس ، فاستيقنا ، ليست بمعولة … شيئا و ان جلّ الا ريث تعترفُ
ان القديم و ان جلّت رزيته … ينضو فيُنسى و يبقى الحادثُ الأنف
و هذان البيتان يذكران بأبيات لأبي خراش الهذلي في المعنى نفسه .. يقول فيهما :
حمدت الهي بعد عروة اذ نجا … خراش ، و بعض الشر أهون من بعض
بلى .. انها تبلى الكلوم و انما … نوكّلُ بالأدنى و ان جلّ ما يمضي
و قال الأحوص حين جلد بأمر من الوليد بن عبدالملك ، في أبيات :
ما من مصيبة نكبة أعنى بها … الا تعظمني و ترفع شاني
و تزول حين تزول عن متخمط … تُخشى بوادره على الأقران
اني اذا خفي اللثام رأيتني … كالشمس لا تخفى بكل زمان
فلما ولي عمر بن عبدالعزيز ، فكتب اليه يستأذنه في القدوم و يمدحه ، فأبى أن يأذن له ، و كتب فيما كتب اليه به :
أيا راكبا اما عرضت فبلغن … هديت أمير المؤمنين رسائلي
و قل لأبي حفص اذا ما لقيته … لقد كنت نفاعا قليل الغوائل
و كيف ترى للعيش طيبا و لذة … و خالك أمسى موثقا بالحبائل
فأتى رجال من الأنصار عمر بن عبدالعزيز ، فكلموه فيه و سألوه أن يقدمه ، و قالوا قد عرفت موضعه و نسبه و قدمه ، و قد أخرج الى أرض الشرك ، فنطلب اليك أن ترده الى حرم رسول اللهم صلى الله عليه و سلم ، و دار قومه .. فقال لهم عمر: فمن الذي يقول :
فما هو الا أن أراها فجاءة … فأبهت حتى ما أكاد أجيب
قالوا : الأحوص .. قال : فمن الذي يقول :
أدور و لولا أن أرى أم جعفر .. بأبياتكم ما كنت حيث أدور
و ما كنت زوارا و لكن ذا الهوى … اذا لم يزر لا بد أن سيزور
قالوا : الأحوص . قال : فمن الذي يقول :
كأن لبنى صبير غادية … أو دمية زينت بها البيع
الله بيني و بين قيمها … يفر مني بها و أتبع
قالوا : الأحوص . قال : فمن الذي يقول :
ستبقى لها بين مضمر القلب و الحشا … سريرة حب يوم تبلى السرائر
قالوا : الأحوص .قال : ان الفاسق عنها يومئذ لمشغول . و الله لا أرده ما كان لي سلطان .
و يقال ان يزيد بن عبدالملك سمع جاريته حبابة تغني هذين البيتين :
اذا رمت عنها سلوة قال شافع … من الحب ميعاد السلو المقابرُ
ستبقى لها في مضمر القلب و الحشا … سريرة ود ، يوم تبلى السرائر
فطرب يزيد و قال لها : من يقول هذا الشعر ؟ . قالت : لا و عينيك ما أدري .
قال : ابعثوا اليّ ابن شهاب الزهري ، فعسى أن يكون عنده علم بذلك . و كان قد ذهب من الليل شطره . فأتي به ، فلما صعد اليه ، قال : لا بأس عليك ! لم ندعك الا لخير . فجلس و سأله عن قائل هذا الشعر ؟ فقال : الأحوص .
قال : ما فعل به ؟ . قال : قد طال حبسه ، فأمر بتخلية سبيله ، و أن يدفع له أربعماية دينار ، ثم قدم عليه و أحسن اليه احسانا جزيلا و أكرمه .
و قيل انه لما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة .. أدنى زيد بن أسلم ، و جفا الأحوص ، فقال له الأحوص :
ألست أبا حفص هديت مخبري … أفي الحق أن أقصى و يدنى ابن أسلما
فقال عمر بن عبدالعزيز : ذلك هو الحق ! .
و يقول الأحوص في هذه القصيدة :
ألا صلة الأرحام أدنى الى التقى … و أظهر في أكفائه لو تكرما
فما ترك الصنع الذي قد صنعته … و لا الغيظ مني ليس جلدا و أعظما
و منا ذوي قربى لديك فأصبحت … قرابتنا ثديا أجدّ و أعظما
و كنت و ما أمّلت منك كبارق … لوى قطره من بعد ما كان غيّما
و قد كنت أرجى الناس عندي مودة … ليالي كان الظن غيبا مرجّما
أعدّك حرزا ان جنيت ظُلامة … و مالا ثريا حين أحمل مغرما
تدارك بعتبى عاتبا ذا قرابة … طوى الغيظ لم يفتح بسخط له فما
يقال ان الهذلي قال :
سألت الفرزدق يوما من أشعر الناس ؟ فقال : أشعر الناس بعدي ، ابن المراغة ( يعني جريرا ) . قل فمن أنسب الناس ؟ .. قال : الذي يقول :
يا للرجال لوجدك المتجدد … و لما تؤمل من عقيلة في غد
ترجو مواعد بعث آدم دونها … كانت خبالا للفؤاد المقصد
هل تدركين عقيل أو أنساكِهِ … بعدي تقلب ذا الزمان المفسد
يومي و يومك بالعقيق اذ الهوى … منا جميع الشمل لم يتبدد
لي ليلتان فليلة معسولة … ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد
و مريحة همي عليّ كأنني … حتى الصباح معلق بالفرقد
قلت : ذاك الأحوص . قال : ذاك هو .
قال الهذلي : ثم أتيت جريرا .. فقلت له : يا أبا حرزة ! من أنسب الناس ؟ قال : الذي يقول :
يا ليت شعري عمن كلفت به … من خثعم اذ نأيت ما صنعوا
قوم يحلون بالسدير و بالــ … ـــحيرة منهم مرأى و مستمع
أن شطت الدار عن ديارهم … أأمسكوا بالوصال أم قطعوا
بل هم على خير ما عهدت و ما … ذلك الا التأميل والطمع
قلت : و من هو ؟ قال : الأحوص . فاجتمعا على أن الأحوص أنسب الناس .
و اعتبر ابو الفرج الأصفهاني هذه الأبيات من المائة المختارة يقول فيها من البسيط و القافية من المتراكب :
يا دين قلبك منها لست ذاكرها … الا ترقرق ماء العين أو دمعا
أدعو الى هجرها قلبي فيتبعني … حتى اذا قلت هذا صادق نزعا
لا أستطيع نزوعا عن محبتها … أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا
كم من دنيّ لها قد صرت أتبعه … و لو سلا القلب عنها صار لي تبعا
و زادني كلفا في الحب أن منعت … أحب شيء الى الانسان ما منعا
كان الأحوص يشبب بأم جعفر ، و هي امرأة من الأنصار من بني خطمة .. فلما أكثر من التشبيب بها توعده أخوها .. و فيها يقول من الطويل و القافية من المتواتر :
لقد منعت معروفها أم جعفر … و اني الى معروفها لفقير
و قد أنكرت بعد اعتراف زيارتي … وقد وغرت فيها علي صدور
أدور و لولا أن أرى أم جعفر … بأبياتكم ما كنت حيث أدور
أزور البيوت اللاصقات ببيتها … و قلبي الى البيت الذي لا أزور
و ما كنت زوارا و لكن ذا الهوى … اذا لم يزر لابد أن سيزور
أزور على أن لست أنفك كلما … أتيت عدوا بالبنان يشير
و يقال ان أم جعفر عندما أكثر الأحوص من التشبيب بها ، جاءته منتقبة في مجلس قومه ، و أخذت تطالبه بدين لها في ذمته .. فأنكر ذلك . و لما كشفت عن وجهها ، أقسم أنه لا يعرفها و لم يرها من قبل .. فقالت : يا عدو الله صدقت و الله ليس لي عليك حق و لا تعرفني ، و قد حلفت على ذلك وأنت صادق ، و أنا أم جعفر التي تشبب بها في شعرك ،. فخجل الأحوص ، و برئت عند القوم .
…
الشاعر الثاني
ابن سنان الخفاجي
عبدالله بن محمد بن سعيد بن سنان ، أبو محمد الخفاجي الحلبي .
شاعر أخذ الأدب عن أبي العلاء المعري و غيره .
ولد في عام 423 هجرية ، 1032 ميلادية .
كانت له ولاية بقلعة ” عزاز ” من أعمال حلب ، و عصى بها ، فاحتيل عليه باطعامه أكلة تدعى ” خشكناجة ” ، كانت مسمومة ، فمات و حمل الى حلب ، سنة 466 هجرية الموافق 1073 ميلادية .
قرأت له هذه القصيدة الجميلة ، عروضها من المتقارب و قافيتها من المتدراك تتألف من 42 بيتا اخترت منها هذه الأبيات :
اذا حدَتِ الريحُ عيسَ الحيا … و هتَّك بالبرق ستر الدجى
و ظلّ يفوِّف جوَّ الرياض … و يصقلها بنسيم الصبا
فمنطقَ منها خصور الوهاد … و توَّج منها رؤوس الربا
و قبّل منها ثغور الأقاح … مداعبة لخدود المها
فجلّى الغوير بأوضاحه … و نجَّده برقُهُ المنتضى
فراح على تربها باكيا … بجفن الرياض و دمع الندى
و من قصيدة عروضها من الطويل و القافية من المتدارك ، يمدح بها ناصر الدولة يقول :
أناخ علي الهم من كل جانب … بياض عذارى في سواد المطالب
و كنت أظن الأربعين تصده … فما قبلت فيها شهادة حاسب
طلبت الصِّبا من بعدها فكأنما … علقت بأعجاز النجوم الغوارب
و ما ساءني فقد الشباب و انما … بكيت على شطر من العمر ذاهب
بكى الناس أطلال الديار و ليتني … وجدت ديارا للدموع السواكب
أأحبابنا هل تسمعون على النوى … تحية عان أو شكاية عاتب
فما لقلوب العاشقين مزية … اذا نظرت أفكارها في العواقب
و لا الشوق الا في صدور تعودت … لقاء الأعادي في لقاء الحبائب
جزى الله عنا العيس خيرا فطالما … فرقت بها بيني و بين النوائب
كفتنا ثقيل الهم عنا كأنما … رمينا بها فوق الذرى و الغوارب
و ان صدقت في ناصر الدولة المنى … فما هي الا من أيادي الركائب
طويت اليك الباخلين كأنما … سريت الى شمس الضحى في الغياهب
و شرفني قصدي اليك و انما … يبين بقصد البيت فضل المحارب
فمن كان يبغي في المديح مواهبا … فان مديحي فيك بعض المواهب
و قال من قصيدة عروضها من الرمل و القافية من المتراكب :
أترى طيفكم لما سرى … أخذ النوم و أعطى السهرا
أم ذهلنا و تمادى ليلنا … فتوهمنا العشاء السحرا
ما نلوم الليل بل نعذره … انما طوّله من قصّرا
ان لبسناه ظلاما داجيا … فبما كان صباحا مسفرا
يا عيونا بالغضا راقدة … حرّم الله عليكن الكرى
لو عدلتن تساهمنا جوى … مثلما كنا اشتركنا نظرا
سل فروع البان عن قلبي فقد … وهِم البارق فيما ذكرا
قال في الربع و ما أحسبه … فارق الأظعان حتى انفطرا
حبذا فيك حديث طاهر … فطن الدمع به فانتشرا
نظرٌ موّه دمعا لم يزل … يُفصح الوجد به حتى جرى
…
خالد ع . خبازة