مقالات

ما هو قبل المقدّس في القدس

أرنست خوري

الحدث المقدسي إذاً لا هو مفاجئ ولا هو طارئ ولا غريب. جولات مواجهة الاضطهاد العرقي في المدينة لم تهدأ منذ 53 عاماً، والمنازل ظلت في القلب منها. حتى الانتفاضات التي اتخذت من المسجد الأقصى عنواناً عريضاً لها، فإنها لم تكن ردة فعل دينية مقدسة بالنسبة إلى كثيرين، بل مسألة منازل ووجود لبشر في أرضهم. الدفاع عن هذا المكان بالنسبة إلى مسلمين ولغير مسلمين كثيرين، لعرب ولغير عرب أعدادهم وازنة، ليس دفاعاً عن إلهٍ أو دينٍ لا يحتاجان لدفاع من أحد على كل حال. الدفاع عن المسجد حتى بالنسبة إلى غير مؤمنين يصبح نخوةً تتصل بالوجود، أي إن هذا المبنى هو لنا، أكنا نرغب في أن نصلي فيه أو اعتبرناه رمزاً عمرانياً عاماً أو تجسيداً ثقافياً لهوية شعب، فهو لنا، ملكية عامة وخاصة في آن واحد، كان يمكن أن نفتحه لكل شعوب الأرض ودياناتهم لو كان المكان محرراً، لو لم يكن هناك مستعمِر يستوطنه ثم يعرض على أصحاب الأرض إذناً لهم بدخوله لساعة في اليوم أو لمرة في الأسبوع وبشروطه. عندما تُختصَر قضية الأقصى في حيّز ديني مقدس حصراً، سنخسر حتماً. الأقصى مثل القدس، قضية استعمار وإنسان وتهجير ومنازل وأصحاب أرض ومستوطن تفوّض المحكمة الإسرائيلية إليه إجبار صاحب المنزل في الشيخ جراح على إجلاء البيت، وإلا عاد في المرة الثانية بصحبة الجرافة والدبابة وشرطة مدججة بالسلاح لتنفيذ أحكام تستند إلى وثائق محرّفة أو مختلقة أو مبنية على أمر واقع فرضه الاحتلال منذ عقود بالإرغام على التوقيع والإجبار على البيع والمغادرة.

إنهم بضعة عشرات الآلاف من المقدسيين المقيمين في المدينة، لكنهم عبء على المستعمِر. التخلص ممن بقي منهم مسألة وجودية لإسرائيل. سرديتها لا تكتمل فصولها من دون شطب “الأغيار”. من لا تُفتح عيناه أمام هذه الحقيقة، فهو لا عينين له. أما من يعترف بها، ثم يستدرك بأن كل الخطأ حاصل في طريقة “إدارة” القضية الفلسطينية، وأن الحل “سياسي” بعيداً عن النضال والمواجهة، فذاك غالباً لن يُسمع له صوت تعليقاً على الحدث المقدسي الحالي. غداً إن هدأت الأوضاع، سيبدأ هذا الفلان الكتابة والكلام من الصفر، وكأن شيئاً لم يحصل، وسيخبرنا أن منطق المواجهة هو ما أوصل الفلسطينيين إلى حيث هم. ستسأله عن الجدوى التي حصدتها مفاوضات الحل السلمي وعن رمي إسرائيل بنود أوسلو في المزبلة، حينها على الأرجح سيغيّر الموضوع، وسيصوّب على صواريخ تنطلق من غزة وتخطئ هدفها أحياناً.

المصدر : العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق