خواطر

أأتركُ سُنَّةَ حبيبي لهؤلاء الحمقاء ؟ بقلم أ.د.عبد الحفيظ الندوي

هذه العبارة المشهورة نُسبت إلى أبي حذيفة اليماني – رضي الله عنه – صاحب الضمير الحيّ في تاريخ الإسلام، حين كان جالساً على مائدة طعام في قصرٍ من قصور الشام، فسقطت منه لقمة، فأراد أن يأخذها ويأكلها. فأشار إليه بعض الجالسين إشارةً خفيّة بأن يتركها تجنباً لما يرونه عيباً أو نقيصة، عندها صدع بتلك الكلمات الخالدة. وأبو حذيفة هذا هو الذي شهد له النبي ﷺ بأنه مثال الإيمان والفطنة اليمانية. وقد رُويَت حوادث مشابهة عن عمر رضي الله عنه، وعن أبي ذر رضي الله عنه.

ها هو ربيع الأول الذي نحن فيه … وستصدح المساجد والطرقات بشعارات الحب النبوي والدفاع عن السُّنَّة. وسيجد من جعل الدين موسميًّا فرصةً لمدح النبي ﷺ بألسنتهم. ولكن، هل هذا هو حُبُّ النبي حقاً؟
إنّا نحتاج إلى العودة إلى التاريخ لنتأمل في معنى ذلك الحب. فقد خاطب رسول الله ﷺ أنس بن مالك – رضي الله عنه – بقوله:

> «يَا بُنَيَّ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ».

 

هذا الحديث الشريف يبين بجلاء ما هي السُّنَّة: إنها خُلقٌ صافٍ، وصفاءُ قلبٍ، وصدقُ معاملة. لكن مع الأسف، يُغفل كثيرون هذه المعاني السامية، ويُشاع بدلاً منها أخبار خارقة أو مظاهر سطحية من الدين: كالتحدث عن خروج الماء من بين أصابع النبي ﷺ أو ارتجاف عرش كسرى، أو جعل إطالة اللحية وتقليصها ميداناً للجدل الديني، دون التمسك بجوهر السنة.

لقد علَّمنا النبي ﷺ أن المؤمن لا يكتمل إيمانه حتى تكون شهواته تبعاً لما جاء به. فلا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة في شهر ربيع الأول أو بعده. فالسُّنَّة التي وصفها القرآن بالـ أسوة الحسنة ليست طقوساً موسمية، بل هي منهاج حياة متواصل.

قال الله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

والسُّنَّة في أصل اللغة: الطريق الواضح الجاري. وفي الاصطلاح: هي أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته. وهذه السنة ليست مقيّدة بيوم أو شهر، بل هي ديمومة واستمرار، وإن قلّت الأعمال. فهي أحبّ إلى الله من الكثرة المنقطعة.

إنَّ حبّ النبي ﷺ يثبت عندما نجعل سنته جزءاً من حياتنا اليومية. فقد وصفت كتب الشمائل النبي ﷺ بأنه كان يكنس بيته، ويرقّع ثوبه، ويساعد أهله، ويسابق زوجاته، ويشاور أصحابه في كل شأن، ويشاركهم جمع الحطب وإعداد الطعام، بل كان أوّل من ينزل إلى حفر الخندق معهم. وهذه سنن يسيرة لا تكلفنا مشقّة إذا اقتدينا به فيها.

ولذلك علّمنا السلف أن ضياع السنن يفتح الباب للبدع، وأن كل فراغ من السُّنَّة يملؤه الناس بالابتداع. وما نراه اليوم من فوضى وانحرافات في مجتمعاتنا إنما سببه ترك السنة وإحلال البدعة محلها.

فإذا أردنا أن يكون ادعاؤنا لحبّ النبي ﷺ صادقاً، فعلينا أن نعيد السنن إلى حياتنا، وأن نُحييها بوعيٍ وبصيرة، حتى يكون حبّنا للنبي ﷺ حبّاً حقيقياً، لا مجرّد شعارات موسمية.

إغلاق