مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة مبادرة الأمل للحد من ظاهرة العنف في المجتمع العربي (12)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* المقالة الأخيرة في هذه السلسلة وهي بعنوان:
– من العنف إلى الإبداع: خطوات نحو مجتمع متجدد
في خضم التحديات التي يواجهها المجتمع العربي بسبب ظاهرة العنف المستمرة، يبرز الإبداع كأداة قوية يمكن أن تكون بديلاً فعالًا للتعامل مع التوترات والاحتقان، الإبداع ليس فقط ممارسات فنية مثل الرسم أو الموسيقى أو المسرح أو النحت، بل هو أيضًا قدرة على إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل الاجتماعية، وتطوير أفكار جديدة تسهم في بناء بيئة سلمية وآمنة، من خلال تحويل الطاقات السلبية الناتجة عن العنف إلى أفكار ومشروعات إبداعية، يمكن للمجتمع أن يخطو خطوات جادة نحو تجديد ذاته والتحرر من دائرة العنف.
* الإبداع كأداة للشفاء المجتمعي
تُشير العديد من الدراسات إلى أن الإبداع، بشكل عام، يمكن أن يكون وسيلة فعّالة للتعامل مع المشاعر السلبية، بما في ذلك الغضب واليأس، يمكن أن تساعد الفنون بأنواعها في توفير مساحة للتعبير عن هذه المشاعر بشكل آمن ومؤثر، على سبيل المثال، يُعد النشيد والموسيقى والمسرح والرسم من الطرق التي تسمح للأفراد بمعالجة تجاربهم الحياتية والصراعات الداخلية دون اللجوء إلى العنف.
– هذه الفنون يمكن أن تخلق بيئة تسمح للأفراد من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية بأن يعبّروا بها عن أنفسهم بحرية، مما يقلل من التوترات النفسية والاجتماعية التي قد تؤدي إلى سلوكيات عنيفة، في المجتمع العربي، على وجه الخصوص، يمكن أن تكون هذه الأنشطة وسيلة لتحفيز الشباب على الانخراط في مشاريع ثقافية وفنية بدلًا من الوقوع في دائرة العنف.
* دور الفن في التقريب بين الثقافات
الفنون لا تقتصر على الفرد فقط، بل هي وسيلة لجمع الناس من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، في المجتمعات التي تعاني من العنف والانقسام، يمكن أن تكون الفنون جسرًا للتواصل بين أفراد المجتمع، من خلال برامج فنية جماعية، مثل العروض المسرحية والفنون الحرَكية والفنون الرياضية وغيرها، يمكن للأفراد أن يتجاوزوا الخلافات والصراعات التي قد تنشأ بسبب الاختلافات الدينية أو الثقافية.
– هذا النوع من الأنشطة يساعد في بناء جسور من الفهم المتبادل، ويعزز الاحترام بين مختلف الفئات في المجتمع، عندما يشارك الأفراد في عمل إبداعي، فإنهم يتعلمون كيفية التعاون والتفاعل بشكل بناء، بعيدًا عن التوترات التي قد تدفعهم إلى التصرف بعنف.
* الإبداع في حل النزاعات: برامج فنية بديلة
– تتسع الآفاق أمام المجتمعات التي تطور برامج فنية مبتكرة للحد من العنف، أحد الأمثلة الناجحة على ذلك هو استخدام الفنون في برامج حل النزاعات، حيث يتم تدريب الأفراد على التعامل مع الخلافات والصراعات من خلال وُرش عمل فنية أو مسرحيات تفاعلية.
في هذه البرامج، يتعلم المشاركون تقنيات لحل النزاعات وتفادي التصعيد، مع استخدام الفن كأداة للتعبير عن النفس ومعالجة الألم، هذه البرامج لا تقتصر على تعليم الناس كيفية استخدام الفنون فقط، بل تهدف إلى تغيير العقلية الاجتماعية، بحيث يرى الأفراد أن حل المشكلات بشكل سلمي هو الخيار الأفضل، بدلاً من اللجوء إلى العنف.
* الفن كوسيلة لتعزيز الهوية الثقافية
في المجتمعات التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية، يمكن أن يكون الفن أداة قوية لتعزيز الهوية الثقافية والوطنية، حيثُ يساهم الفن في تحفيز الشعور بالفخر والانتماء، مما يقلل من مشاعر الإحباط واليأس التي قد تكون منبعًا للعنف.
عند إعادة إحياء التراث الثقافي والفني، مثل الفلكلور الشعبي، والموسيقى التقليدية، والحِرف اليدوية، وغيرها من الفنون، يمكن أن تزداد الروابط بين الأفراد والمجتمع، هذه الروابط تشكل خط الدفاع الأول ضد المظاهر العنيفة، وتساعد الأفراد على الشعور بالاتصال بتاريخهم وهويتهم، مما يعطيهم قوة نفسية أكبر لمواجهة التحديات المستقبلية.
* الختام: الإبداع في قلب المجتمع المتجدد
إن تحويل العنف إلى إبداع ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة مجتمعية حيوية، من خلال الفن والابتكار، يمكن للمجتمع العربي أن يشق طريقه نحو بناء بيئة أكثر سلمية وأمانًا، دور الفن في بناء المجتمعات لا يتوقف عند كونه وسيلة للترفيه أو التسلية، بل يمكن أن يكون قوة مغيرة، محورية في بناء مجتمع متجدد يتجاوز سلبيات الماضي ويتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا.
– الإبداع لا يقتصر على الإبداع الفني فحسب، بل هو أسلوب حياة، يعكس قدرة الأفراد والجماعات على إعادة بناء مجتمعهم بشكل إيجابي وسلمي، إذا تم دمج الفنون والإبداع في صلب الحياة المجتمعية، فإننا نخطو خطوة كبيرة نحو تحقيق حلم مجتمع خالٍ من العنف، يشبع طاقات أفراده ويطور إمكانياتهم لتحقيق الخير العام.
– نلتقي بمشيئة الله مع سلسلة جديدة صبيحة الغد
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1854)
27. رجب . 1446هـ
الأثنين .27.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)