المتخصص في شؤون الحوار التنويريّ الإنسانيّ
ماذا لو افرغنّا النفوس البشرية من خصوصيتها الروحانية، ستنتج بلا شك وجوداً بايولوجياً خالياً من الحسّ ونقاوةِ المعنى السلوكيّ، تلك هي بالضبط وظيفة المُعتقدِ الديني وتأثيراته الرمزيّة في ذاتِ الانسانِ، وخصوصيته الروحانية هي التي تتحكم وتناغم ما بين ثنائية النوايا والسلوك، لذلك نجد انّ العالم الحديث يكافحُ بجديةٍ لنشرِ ثقافةِ الحريةِ الدينيةِ وتعميمها على اطارِ السلوكِ العام فضلاً عن مزاوجتها بالتوجهِ الانسانيّ العام بالرغمِ من تفشيّ فايروسات الكراهيّة وانشطار المجتمعات بفؤوسِ التعصباتِ المذهبيةِ، ولا بأس بتقدمٍ يمكننا الشعور بتحقيقه ولمسه في تلك المساحة الاصلاحية الحذرة واعتماداً على هيئة الأمم المتحدة عام 1948 لوثيقةِ الإعلانِ العالمي لحقوقِ الإنسانِ واحتوائها لمبادئٍ أساسيةٍ لِحريةِ الدينِ والمعتقدِ وإقرارِ بنودهِ التي تشمل ان لكلِ إنسانٍ الحق في حريةِ الفكرِ والوجدانِ واعتناق اي دينٍ أو معتقدٍ يختاره وممارسةِ شعائره وتلت ذلك محاولاتٍ عدةٍ لصياغةِ اتفاقياتٍ خاصةٍ بهذا الموضوع، لكنها لم تتحقق حتى الآن ضاربةً عرض الحائط كل القوانينِ الدولية التي منحت الحق لكُل فردٍ باعتناقِ الدين الذي يراهُ مناسباً لفكرهِ وكما أكدت لجنةُ حقوق الإنسان المعنية بالإشرافِ على تنفيذِ العهدِ الدولي الخاص بالحقوقِ المدنيةِ والسياسيةِ المُعتمدة من قبل الجمعيةِ العامة للأمم المتحدة عام 1966 على الحقِ المُطلق للأفراد بممارسةِ دينهم ومعتقدهم، مُضيفةً بتوددٍ :
“الدينُ يجلبُ الأمل والسلوى لملياراتِ البشر ويُساهم في تحقيقِ الصلحِ والسلامِ العالميين، لكن التعصبات الدينية والمذهبية والنعرات الطائفية تتسبب في تحويلِ الأديانِ الى مصدرٍ للتوترات والنزاعاتِ الدامية، هذا التعقيد وبجانب صعوبة تعريف الدين وسلاسة طرح المفهوم العقائديّ يلقيان بظِلالهما السلبية على عمليةِ حمايةِ الحريات الدينية في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان”..
هذا العهد الانسانيّ الشامل جاء مُشدداً ومؤكداً على احترام حرية اختيار الدين والمعتقد للجميع، وحرية إظهاره بالتعبد وممارسة الشعائر والتعليم، كفرد أو جماعة وأمام الملأ وعدم إجبار أحد على اعتناق الدين بصورة تخل بحريته الدينية وممارستها العلنية إلا بالقوانين الضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام أو الصحة والآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية، وتعهد الدول باحترام حرية الآباء بتأمين التربية الدينية لأطفالهم وفقا لقناعاتهم الخاصة..
كما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً بشأنِ القضاءِ على جميعِ أشكالِ التعصبِ والتمييزِ الديني والمذهبي في سنة 1981 كأهم قانونٍ معاصرٍ ويحترم مبدأ حرية الدين والمعتقد لكنه يفتقر الى الإلزامية وآلية الإشراف على التنفيذ، لان اختيار الدين والمُعتقد مسؤولية شخصية يُحاسب عليه الفرد ولا يحقُ لأحدٍ التدخل فيه أو إكراه الناس على دين مُعين، وهو مصداقاً لما جاء في القرآنِ الكريم “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”..
بعد ذلك كله، ها انا اضع تساؤلاتيّ بحيِرةٍ:
اذا كان الامر كذلك، لماذا يا ترى نُحاسب الآخرين على نواياهم واختياراتهم الدينية والمذهبية؟ ولم التدخل في العلاقة الخاصة للإنسان بِربه؟ وهل صارت متلازمة الاقصاء الفكري والعملي والعقائدي اسلوباً دارجاً وسلساً في الحياة؟..
وطبعاً لا استطيع اخفاء اعجابي بما ذكرته الأستاذة دلع المفتي: “الذي يعبد الله فعلاً لا يأخذ مكانه، ولا يتكلم باسمه، ولا يوكل نفسه عنه، ولا يحرم ما حلله، ولا يُحاسب الناس بدلا عنه، والأهم يحسن الظن به تعالى”