مقالات
الدعوة المنبرية سأله: هل تظن أن التاريخ روى لنا كل أحداث الزمان؟ أجابه: إن الأحداث التي رُوِيَتْ بالنسبة لمن لم تُرْوَ، مثل قطرة في بحر /القصة قبل آلاف الأعوام” الجزء الثاني “
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن
وكتبت:
“إلى الثلاثة الأعزاء، لقد قبل الله شفاعتي، وأعدني للقيادة، وأوضح لي كل شيء.
لكن اعلموا أن جراحكم لن تلتئم إلا بعد أن تُكوى بالنار. هل تعرفون كيف تُكوى؟ سوف تصطك السيوف لعشر سنين، تسيل فيها الدماء أنهارًا. دماء الأبرياء ستتسبب في اتساعها، لكن دماء الظالمين والكفار ستكون أكثر بمائة مرة من دماء الأبرياء، وحينها فقط ستلئم الجراح.
أريد أن أخبركم أيضًا أنكم ستصرخون، وتتمزقون، وسيضج الألم في كل ذرة من كيانكم، فاحتملوا حتى يأتي النصر الذي لا ريب فيه.
كل ما عليكم هو الصبر، والثقة في وعد الله.
انتظروا كلمتي، قد تأتيكم بعد أيام، أو شهور، أو سنين. لن أرسل إليكم الرياح إلا بعد أن يضع منبر ولدي المصطفى قدميه على أول سلم النجاح.” ما إن خرجت الرياح لإيصال رسالتها، حتى جلست ترفع أكفها إلى السماء، شاكرة ربها على ما علمها من حكمة وبلاغة.
قالت: “ربي، علمتني منطق الخلائق، فالشكر لك.
والآن علمتني كلمات تزلزل القلوب، تفتح بها عيونًا عمياء، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صماء.
فوفقني لما أمرتني، وكن في عون عبدك ‘منبر’.
وامنحني القوة التي أتحمل بها بشاعة ما سيحدث من أجل رفع الظلم عن المظلومين من مشرق الأرض إلى مغربها.”
نهضت، وأحضرت بعض أوراق البردي، وكتبت كلمات بالريشة من خلال محبرة كانت موضوعة على منضدة خشبية بدائية.
ثم طوت الرسالة على شكل أسطوانة وربطتها بأشرطة جلدية.
ثم دعت الرياح إليها فحضرت، فقالت: “من الآن فصاعدًا، ستكونين رسولي إلى منبر. عندما تأتينه، انزعي عنك لباس الجماد وارتدي ثياب البشر، فإنه لن يفقه قولك ولا فعلك لو أتيته بهيئتك. والآن، أعطي هذه الرسالة له.”
جاءت الرياح في صورة بشر، ودخلت الكهف الذي يختلي فيه منبر لتطهير نفسه من لمم الآثام.
وجدت منبر يتخشع.
انتظرت حتى انتهى، وقال: “السلام على ابن المقدسة.”
قال منبر: “وعليكِ السلام.”
نظر إليها بدهشة وقال: “من أنتِ أيتها المرأة؟”
قالت: “أنا الرياح، يجسدني الله في الصورة التي يريدها، وقد جسدني هذه المرة على هذه الهيئة حتى أكون رسولا بينك وبين المقدسة في المرحلة المقبلة.”
ثم ألقت له الرسالة. دهش من كلامها، فما اعتادت أمه أن ترسل له رسلاً من الجماد.
فتح الرسالة، وقرأ محتواها، ووجهه مستبشر وقلبه يخفق خشوعًا لما يقرأ. وعندما انتهى قال: “هل أنتِ واثقة أن هذا الكلام بريشة المقدسة؟”
أجابت: “نعم.”
نهض، ونظر إليها وقال: “هل أنتِ متأكدة أن هذا من حبر المقدسة أمي؟”
أجابت: “نعم.”
قال، ووجهه ملآن بالسرور والتفاؤل: “لله درك يا مقدسة، كلماتك حلوة، فهي كالشجرة التي لا تتساقط أوراقها أبدًا لأن فروعها تكثر مع نموها، ويأتيها الماء متى شاءت أينما شاءت. وما علمك الله هذه الحكمة إلا لشيء عظيم.”
ظن منبر ساعتها أن الله سيكلفها بأمر عظيم، فتجهم فجأة وبدأت تتقلص ملامح وجهه خوفًا عليها.
دخل عليها، فوجدها كما اعتاد أن يجدها دائمًا، تناجي ربها.
فلما انتهت، نظرت إليه وقالت: “قرأت الرسالة؟”
أجاب: “نعم يا أمي، ما أروع ما كتبتِ!”
قالت: “هذا ما علمني الله إياه لأكتب إليك دائمًا.”
قال: “هو الحسم إذن؟”
قالت: “نعم، أنت من اصطفاك الله للرسالة، واصطفاني لأراسلك، واصطفى الرياح لتكون رسولا بيني وبينك.”
انهار في مكانه، وارتجف بشدة، اجتاحه الخوف حتى كادت دماؤه تهرب من عروقه هلعًا بسببها.
قال متلعثمًا: “أنا، أنا… كنتُ أظنك أنتِ، إن إيماني بالنسبة لإيمانك كقطرة في بحر.”
قالت: “لا يعلم أقدار العباد إلا الله، فاثبت وكن على قدر المسؤولية.”
بعد لحظات صمت قال همسًا: “منذ متى حدث ذلك يا أماه؟”
قصت له ما جاء في رسائل الأرض والسماء والمياه.
عندها قال: “علمت الآن لم علمك الله هذه الحكمة والبلاغة الآن، أمي، إن من أراد تقليد حكمتك وبلاغتك سيعجز لا محالة.”
قالت: “لو أصبت القول لقلت: من قلدك أنت، هذا هو سلاحك في مجابهة أهل الباطل. سوف تصلك مني رسائل عند الحاجة والضرورة وحسب الموقف الذي تواجهه. وصول الرسائل بهذه الطريقة سيؤكد صدقك، ويثبتك في مواجهة أهل الباطل، ويثبت من اتبعك على الحق. وكما تعلم، إن الرياح هي رسولي إليك.”
قال: “من أين أبدأ؟”
قالت: “من حيث نشأت، فأنت منهم وهم يعلمون صدقك وأمانتك.”
قال مرتعدًا: “قرية الفجور! كيف ذلك؟”
قالت: “ربك أعلم حيث ينزل رسالته، فلا تدهش. ولا تخف، والآن خذ هذه القراطيس، اقرأها، فيها تكليفك، وفيها من الترغيب لأهل الحق والترهيب لأهل الباطل ما يساعدك على نجاح رسالتك.
وأخبرهم عن لساني أن القراطيس دواء وشفاء، وأنها نور وهدى.
أخبرهم عني أنه سلاح لهم سينقلهم من أسفل سافلين ويدفعهم لأعلى عليين.
أخبرهم وقل لهم: إن النورانية تحبكم إذا اهتديتم، ولا ذنب لها إذا ضللتم واحترقتم.”
قال امتثالًا: “سمعًا وطاعة.”
ركب المطية، فلما كان على مشارف القرية، قابل كهلاً بالغ المائة من عمره، يكاد لا يستطيع أن يتنفس وكأنه يختنق، ولا يكف عن السعال.
أخبره منبر بأمره، فقال له العجوز: “لا أؤمن لك إلا إذا قرأت ما في هذه القراطيس، سأتأكد أنك دعيّ عندها، لأني أبلغ أهل الأرض وأحكمهم.”
ناول منبر القرطاس للرجل، فقرأه، وقال: “ما هذا بكلام بشر أبدًا، إذا كتبه بشر فقد أملاه الله عليه.”
آمنت برسالتك يا منبر، وما لبث أن مات من فوره.
حزن عليه منبر، ودعا له، وتحسر على وفاته لأنه تناول الدواء على الفور واستراح به، وفي نفس الوقت تفاءل كثيرًا بسبب مفعول ذاك الكلام السحري.