سأله: هل تظن أن التاريخ روى لنا كل أحداث الزمان؟
أجابه: إن الأحداث التي رُوِيَتْ بالنسبة لمن لم تُرْوَ، مثل قطرة في بحر.
القصة
قبل آلاف الأعوام
كانت رائحة الذنوب التي تنبعث من البشر قد ملأت السماء، فأصبحت لا تحتملها كما لا تحتمل رائحة أدبار الشياطين. ثقلت أقدامهم الشيطانية بالآثام، فلم تعد الأرض قادرة على تحمل خطواتهم، ولا المياه قادرة على حمل سفنهم ومراكبهم التي تحمل الموت على متنها.
وكانت أوجاعهم نتيجة لصراخ المظلومين، وأنات الجرحى، وسفك دماء المقهورين. فقرروا الاستغاثة بالأم، وأرسلوا شكواهم بعدما ضاقت بهم الأحزان، فاختاروا الرياح ذات الأجنحة الكونية لتحمل رسائلهم إليها.
طارت الرياح محملة بأجنحة الشمس والقمر والنجوم، حاملة رسائلهم إلى الأم. كانت الرياح تتوالى من مشرق الأرض ومغربها، تحمل الكلمات من أعماق المعاناة.
جاء في رسالة الأرض: “إلى الأم المقدسة الطاهرة النورانية، سلام الله عليكِ. أرسل إليكِ رسالتي المائة بعد تسع وتسعين، فقد عجزت عن تحمل دبيبهم على ظهري. فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي ببلعهم في جوفي.”
وجاء في رسالة السماء: “إلى الأم العظيمة، أرسل إليكِ رسالتي المئوية، فقد أصبحت عاجزة عن تحمل تظليل رؤوسهم بما تحتويه من دمار. فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي بإرسال حاصب ليحرقهم.”
أما في رسالة المياه، فقد ورد: “إلى الأم النبيلة، لا أستطيع تحمل سيرهم على ظهري، فاشفعي لنا عند ربكِ بأن يأذن لي بغرقهم في قيعاني.”
وجاء في رسالة موحدة من الجميع: “أكثر ما أحزننا هو النفاق والكذب.”
استقبلت الأم المقدسة جميع الرسائل، بالإضافة إلى الرسالة الموحدة. كانت أحبارها مغمورة بالدعاء، وأوراقها محمّلة بالرجاء، ومختومة بلغة لا يعرفها سواها، لغة النورانية.
نظرت إلى الرياح، التي كانت تحمل أجنحتها المضيئة، أجنحة الشمس في يمينها، والقمر في يسارها، والنجوم تتوج رأسها. تأملت في أمر الله الذي علمها لغة الجمادات، ثم قالت للريح: “منذ متى خرجتِ بهذه الرسائل؟”
أجابت الرياح: “أعطوني الرسائل حين كان قرص الشمس على وشك أن يلامس الأفق.”
تأملت المقدسة في كلمات الرياح وهمست بين شفتيها: “منذ لحظة تسلمك الرسائل حتى وصولك، كنتُ أدعو الله أن يصلح حال البشر بكلمة واحدة فقط، خرجت من أعماق قلبي، وكانت أمانتكِ، أيتها الرياح، أسرع من أسرع جني على وجه الأرض.”
قالت للرياح: “ولماذا قصدوا شفاعتي؟ أليس هناك من هو خير مني؟”
أجابت الرياح: “لا، فكل أعمالكِ الطيبة تصل إليهم. نحن نبكي ونفرح كما تبكين وتفرحين، وأنتِ يا مقدسة خير من يعبد الله في هذا الكون. كان خشوعكِ يخفف عنهم آثام البشر وشرورهم، لذلك أرادوا شفاعتك.”
همست النورانية في نفسها: “جاء وعد الله بإغاثة خلقه، حتى الجماد أراد أن يغيثهم. يظنون البشر أن الجماد لا يحيا، لكن بالنسبة لجلال الله، هو خلق من خلقه. وأنا خير من يعلم هذه الحقيقة، فأنا أكلم الشجر والحجر والمياه وسائر خلقه.”
قالت: “دعيني أيتها الرياح أختلي بربي لحظة، لأنظر إن كان يقبل شفاعتي أم لا.”
اختلت المقدسة مع الله لبعض الوقت، ثم خرجت بعد أن قبل شفاعتها ووهبها قدرة الحكمة والبلاغة.
سحبت الريشة من المحبرة وكتبت رسالة بلغة الكون، حروفها تخرج من منطق لا دخل للبشر فيه، لأنها لغة الجماد.
يتبع….