مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
التواصل بين الأجيال: كيف نبني جسوراً بين الآباء والأبناء في زمن الفجوات الثقافية في ضوء النصوص الدينية (1)
– يُعد التواصل بين الأجيال ركيزة أساسية لتحقيق الترابط الأسري والمجتمعي، ولكن في ظل التغيرات السريعة والتطورات التكنولوجية والثقافية المتلاحقة، باتت الفجوات الثقافية بين الآباء والأبناء أكثر وضوحاً، مما يوجب العمل على تعزيز هذا التواصل بواسطة بناء جسور فعالة، تجمع بين الاحترام والتفاهم المتبادل، وهنا يأتي دور التوجيهات الدينية، من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، لتقديم رؤية عميقة حول كيفية بناء تواصل إيجابي بين الأجيال.
* دور القرآن الكريم في تعزيز التواصل الأسري
– يؤكد القرآن الكريم على أهمية الإحسان للوالدين، إذ يقول الله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23). تُبرِز هذه الآية أهمية التعامل بلطف واحترام مع الآباء، مما يفتح أبواباً للحوار المبني على الكلمة الطيبة، ويقلل من سوء التفاهم بينهما، كذلك يشير القرآن إلى أهمية توجيه الآباء لأبنائهم بروح من الحكمة، كما جاء في وصايا يعقوب عليه السلام لبنيه في قوله: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ۖ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132). وهذا الأسلوب الإبراهيمي يُبيّن ضرورة استخدام التوجيه الحسن بدلاً من فرض القيم بصرامة، مما يخلق بيئة حوارية تجعل الأبناء ينفتحون على قيم آبائهم بشكل أكثر إيجابية.
* أمثلة من السنة النبوية في التواصل بين الأجيال.
يظهر في السنة النبوية أروع الأمثلة على اللين والرحمة في التعامل مع الأبناء والشباب، حيث كان النبي ﷺ يُعاملهم بلطف ويُشجعهم على التعبير عن آرائهم، كما ورد عن أنس بن مالك: “ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ “، هذا التعامل النبوي يدعو الآباء إلى الاستماع والتعامل برفق مع أبنائهم، مما يعزز ثقة الأبناء ويشجعهم على التواصل بحرية دون خوف من التوبيخ والتأنيب.
– كذلك، ينصح الرسول ﷺ بتقدير صلة الود مع الوالدين وأحبائهم حتى بعد وفاتهم، كما قال: “إن من أبرّ البرّ صلة الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يُوَلي” (رواه مسلم) فهذا التواصل الودّي يربط بين الأجيال، ويُشعر الأبناء بقيمة التقاليد والعلاقات القديمة، مما يسهم في سد الفجوات الثقافية.
* خطوات عملية لبناء جسور التواصل بين الأجيال
1- الحوار الصادق والمفتوح:
توجّه الشريعة الإسلامية أسلوب الحوار المبني على الاحترام، حيث يجب أن يكون الحوار متبادلاً بين الآباء والأبناء، دون إصدار أحكام مسبقة، بحيث يشعر الأبناء بالراحة في التعبير عن آرائهم واهتماماتهم، ويمكن استخدام نموذج لقمان وهو يعظ ابنه، حيث يُعد نموذج لقمان الحكيم مع ابنه من أبرز الأمثلة القرآنية التي توضح أهمية الحوار الهادئ والتوجيهي بين الآباء والأبناء، فقد ورد في سورة لقمان كيف حاور لقمان ابنه بأسلوب لطيف وحنون، محذراً ومعلماً إياه أمور الدين والدنيا بأسلوب حكيم وواعٍ، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، في هذه الآية الكريمة، يبدأ لقمان حواره مع ولده بنداء لطيف يتحبب فيه له، مستخدماً عبارة “يا بُني” التي تعبر عن العاطفة والمحبة والاهتمام، ويقدم له نصيحة عن التوحيد، محذراً إياه من الشرك، ويصفه بأنه “ظلم عظيم” ليغرس في نفسه خطورة هذا الفعل.
– ثم يتابع لقمان نصائحه لابنه كما جاء في السورة، حيث يعلمه الأخلاق الحميدة، والصبر على الابتلاءات، وضرورة إقامة الصلاة، وأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17).
– هنا نرى كيف ينصح لقمان ابنه بالتزام العبادة، والأخلاق الطيبة، والصبر، حيث يقدم له النصيحة بأسلوب يشجع على التفكر والتطبيق، فهذا الأسلوب اللطيف الفريد الذي ظهر في نموذج لقمان يُظهر أهمية الحوار الحكيم الذي يمزج بين الحنان والتوجيه، ويعطي الأبناء مساحة لفهم القيم والمبادئ بأسلوب محبب ومؤثر.
2- التعامل برفق ولين: يقول النبي ﷺ : “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله” (رواه مسلم)، عندما يستخدم الآباء أسلوباً لطيفاً في التوجيه، يشعر الأبناء بالحب والقبول، مما يشجعهم على التقرب منهم والحديث بحرية أمامهم ومعهم… انتظروا المزيد بحول الله.
– صباحكم طيب ونهاركم سعيد وآمن، ولنُكثر من الدعاء لتفريج الكروب وإخماد نار الحروب، ولا ننسَ الصلاة على خير مبعوث للعالمين، محمد ﷺ.
مقالة رقم: (1775)
08 جمادى الأولى 1446هـ
الأحد 10.11.2024 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)