مقالات
الولادة قصة الكاتب محمد سعيد
الولادة
قصة: محمد علي سعيد. مدينة طمره- عكا
تعرّف عليها في إحدى المظاهرات، كادت تخنقه قنبلة الغاز وتسبب له الإغماء. لا يعرف كيف رآها وهي تُدخل يدها في جيب جلبابها وتقذف إليه رأس بصل بلدي..
تلقفه بيديه، شبك أصابع يديه بعضها ببعض وضغط رأس البصل بقوة فأسال عصيره وأخرج رائحته.. نشق الرائحة بعمق. صحا قليلا .. ركض وابتلعته الأزقة واختفى بين البيوت.
وفي مظاهرة أخرى أصابته رصاصة في ساقه ، حمله الإخوة وأدخلوه قاعة سرية تحت أحد البيوت المهدّمة… لم يمض وقت طويل وإذ بها تدخل القاعة، تلقي التحية بكل هدوء وثقة ” السلام عليكم ” … ” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ”
تمسح القاعة بنظراتها، كأنها تبحث عن شيء ما. وما أن رأته حتى ابتسمت… تقدمت نحوه بثبات واضح وتفاؤل يغمر وجهها، حاول أن يتحرك، أن يقول شيئا لكنها منعته بإشارة من سبابتها على فمها.
أدخلت يدها في جيب جلبابها ، أخرجت مُطَهِّرا ومرهما وضمادة ، نظفت الجرح ” سليمة إن شاء الله “… أخرجت الرصاصة ، وضعت دواء ، وضمدت الجرح، وبصوت آمر وحازم قالت: ” ابق هنا حتى تشفى . ” خرج صوتها هادئا، مؤثرا وغير قابل للمناقشة والاعتراض… ” إلى اللقاء ” قالتها وهي تتجه نحو الباب مغادرة.
فيما بعد أصبح يراها دائما في المظاهرات والاشتباكات والصدامات … تنظر إليه وترسم شارة النصر والابتسامة المشرقة تغمر وجهها ويرد عليها بالمثل ويضيف إيماءة من رأسه…
يسير كل منهما في المقدمة.. ينظم كل منهما أمور فرقته : المواقع، توزيع المهام، أماكن التجمع، الهجوم، الانسحاب، معالجة المصابين، التخطيط للغد، تنفيذ تعليمات البيانات، ومعالجة الأمور الطارئة من أمور أخرى تحتاج إلى معالجة سريعة وناجعة .
في إحدى المظاهرات ابتسمت له – كالمعتاد – وقذفت إليه بشيء ما.. تلقفه وإذا به حبة بطاطا في داخلها رسالة تحدد مكانا وزمانا للقاء بينهما .
تأكد من موقعها القيادي… ازداد احتراما لها وإعجابا بها …
وكان اللقاء .. وتكررت اللقاءات بينهما وعكس التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات نجاحا ميدانيا.. قررا أن يلتقيا إلى الأبد… تزوجا على سنة الله ورسوله .
كان ذلك في السنة الأولى للانتفاضة . داهم الجنود بيت العروسين ليلا ولم يمض على زواجهما أكثر من أسبوع،
أخذوه من سريره، قيدوا يديه خلف ظهره، وضعوا عصابة سوداء على عينيه واقتادوه إلى المعتقل.
طالت مدة غيابه، لا محاكمة .. ولا خبر… ولكن الزوجة لم يتوقف نشاطها أو تقلل منه ، بل ازدادت وعيا والتزاما لمسؤولية دورها، وتصميما على الاستمرار في واجبها حتى بزوغ الفجر أو الشهادة.
تتصدر المظاهرات في النهار وتخطط في الليل، تداوي الجرحى، تزرع الأمل وتعلم المحتاجين. في قلبها إيمان عميق، وعلى وجهها تفاؤل وفي عينيها حلم وفي دماغها تخطيط مدروس.
تتقدم بخطوات ثابتة وجريئة، ترسم شارة النصر بإصبعها وتهتف بصوت عال:
” هون حْجار هون حجار.. بعد الليل بيجي النهار ” ….
يرددون الهتاف وراءها، وبعد تكراره عدة مرات تصرخ بهتاف آخر:
” من غزة لجنين شعبك حي يا فلسطين ” …
ويرددون وراءها بكل جوارحهم… وتُكَبّر ” الله أكبر… الله أكبر “، تلتقط حجرا، تقذفه، يصل ويحقق هدفه.
بقيت نشيطة جدا وفعالة على الساحة إلى أن اقترب موعد الوضع ،
انتقلت إلى البيت مضطرة ونزولا عند رغبة أخواتها في النضال.
وقد سبق ولبت لهم رغبة حين ازدادت حركة جنينها وثقلت حركتها..
فغيرت موقع نضالها من الميدان إلى قاعة الإسعافات والمساعدة..
تعالج المصابين وتضمد الجراح، تقوي وتشحذ الهمم، تغرس الثقة، تعلم الصغار تعويضا عن المدارس المغلقة، تخطط النضال، وتشارك فيه .
اقترب موعد وضعها أكثر وأكثر… أحضروا القابلة بطريقة سرية، جاءها المخاض وازداد الطلق وعلا صراخها .. وبعد وقت قصير شاركها الصراخ مولودها البكر ..
فانفجرت أسارير وجوه الحضور في الغرفة المجاورة.
أمسكت القابلة المولود من رجليه ورفعته مقلوبا،
نفضته ونظفته وصرخت ” مبروك، مبروك، بنت “.
” ماذا نسميها…؟!! ” سؤال أو تساؤل ردده الجميع، وقبل أن يتفقوا على التسمية فاجأهم الأب بحضوره بينهم، هب الجميع من أماكنهم، صافحوه وعانقوه و ” الحمد الله على السلامة “…
” ماذا نسميها…؟! ” سمع الأب ما يردده الحضور، التفت نحوهم، ارتسمت ابتسامة وغمرت ملامح وجهه، وبصوت هادئ واثق ومؤثر قال: ” نسميها فلسطين ” دمعت عينا الأم وزغردت الجدة. واختفى الأب..