بينما يذكر أن بداية النحو في الكوفة تزامن مع وجود الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة، مما يعني أن نحو الكوفة متأخر عن نحو البصرة بأعوام كثيرة، أضف إلى ذلك ما يذكر عن اهتمام الكوفيين عامة وتركيزهم على القراءات القرآنية أكثر من أي شيء آخر. ومن أهم وأشهر أعلام النَّحو في الكوفة معاذ الهَرَّاء (187هـ) واضع فن التصريف، والكسائي (189هـ) الذي يعرف بأنه إمام نحاة الكوفة، والفرَّاء (207هـ)، وثعلب (291هـ).
وفي ظلال الدولة العباسية استمرت جذوة علم النحو بالتوقّد، وانبرى العلماء إلى تفصيل دقائقه ودراستها والإحاطة بكل صغيرة وكبيرة فيه، وكانت بغداد حينها حاضرة العلم والثقافة العربية والإسلامية، وقد اشتهر من النحويين آنذاك السيرافي (368هـ) والفارسي (377هـ) وابن جني (392هـ) والزمخشري (538هـ) وابن يعيش (643هـ) وابن هشام (761هـ) وابن عقيل (769هـ) والأزهري (905هـ) والسيوطي (911هـ) وغيرهم، وكان لكلٍّ منهم تفرّده في بعض الأحكام الدقيقة وأدلته على ما ذهب إليه، إذ يذكر أن ابن جنّي على سبيل المثال يذهب إلى القول إن (إذا) الفجائية ظرف مكان، وفيها كلام طويل واختلاف بين علماء النحو حول حرفيتها أو اسميتها، واختلف الذين قالوا باسميّتها حول كونها ظرف زمان أو ظرف مكان. ومثل ذلك كثير في نقاشات النحويين واختلافاتهم.
لماذا انقسم النحويون إلى بصريين وكوفيين؟
لم يتفق نحويُّو البصرة مع نحويِّي الكوفة في ضبط بعض قواعد اللغة ودقائقها، ولعل أهم الفروق بينهما ما كان في قبول الشاهد اللغوي؛ فالبصريّون تشدَّدوا فيما اشترطوه لقبول الرواية والشاهد، ولم يقبلوا إلا ما جاء عن العرب الخلّص، فلم يأخذوا عن أهل الحضر، ولم يقبلوا بيتا شعريا لم يُعرف قائله، وتخيَّروا من القبائل، فلم يقبلوا إلا التي يثقون بشعرها وأصالتها اللغوية كقيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، في حين كان الكوفيون أقل تشددا في مسألة الرواية وقبول الشاهد اللغويّ. والحقُّ عندي أن مذهب البصريِّين في ذلك أولى وأصحّ وأكثر دقّة، فبالنظر إلى ما جاء على لسان ابن النديم في الفهرست نفهم المشهد جيدا، إذ قال: “إنما قدمنا البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أخذ ولأن البصرة أقدم بناء من الكوفة”. ولعل مذهب الكوفيين مبني على ما يوافق البُعد الجغرافي للمدينة آنذاك فهي أبعد من البصرة عن الصحراء والعرب الأقحاح.
وفي مسألة تعميم القاعدة النحوية اعتمد البصريون على الأكثر ورودا في اللغة، وما سوى ذلك لا يقيسون عليه ولا يستنبطون منه وغالبا ما وصفوه بالشذوذ، أما الكوفيون فتساهلوا في تعميم القواعد وقياسها، فكلما عرض لهم شاهد يخالف السائد قبلوه وولّدوا منه حكما لأمثاله. وفي هذه النقطة تحديدا كثير من الشواهد التي تؤكد تشدد البصريين وتساهل الكوفيين، وكلا الطرفين نحا منحىً صعبا في ذلك.
واعتمادا على ما سبق لا يبدو مستغربا أن نجد البصريين وقد اعتمدوا السماع وقدموه على القياس اعتدادا بما وصل إليهم من العرب الأقحاح الضاربة جذورهم في الصحراء العربية، في حين قدّم الكوفيون القياس تقديما جعلهم يُغالون في قبول ما يصححه القياس ولا سماع يدعمه أو يسند صحته.
هل نضج علم النَّحو حتى احترق؟
يقال: إن علم النَّحو نضج حتى احترق! واكتمل اكتمالا خالصا، فما عاد فيه موضع لقدم نحويّ جديد غير أن يتقن ويتبنى آراء الأوائل فيَعِيها ويعتمدها، لكن الواقع يؤكد أن علم النحو على تمامه اليوم بقي على مدى قرون عديدة مجالا للأخذ والرد، فظهرت حركات لتجديد النحو مثلا بهدف تسهيله وتقريبه للمتعلمين كما فعل شوقي ضيف (2005م) في كتابه (تجديد النحو)، لكنّها –عامة- محاولات بائسة لم يُكتب لها القبول الحسن، فأي دارس عميق للغة اليوم لن يقبل بما يمس أصالتها أو “يبسّطها” حدّ الإسفاف والسخف، وما من لغة من لغات العالم إلا ولها قواعدها التي تحكمها على اختلاف كثرتها ومرونتها وغير ذلك.
إن جهد النحاة على مرِّ العصور مشكور محمود، فقد حمل الأوائل منهم الأمانة وتركوا ما يُحمد لهم بَدْؤُه ورَعيه، فهو أعظم ما تُرك من ميراث لغويّ حي لن تبلى محاسنه.