.طالبتك مراراً يا صديقي بتعلم السباحة .. كنت لا تصغي ولا زلت لما أكتبه من عصارة ذهني الملاحظ للتفاصيل الدقيقة في الحياة .. وأعلم أنها ليست شغلك الشاغل ولا همك المهم .. فأنت مثل الأغلبية المُسَيّرة في هذا الكون على يد المنتفعين من سطحيّة الاهتمامات، وجهل المقامات، واختزال الرؤى، وتقزيم النظرات ..
كنت أتعجب من أولئك القوم الذين يلقون بأطفالهم في الماء منذ لحظة الولادة، وأولئك الحريصون على تعليم أبنائهم مهارة تطويع الماء أثناء تعلمهم المشي على اليابسة .. حتى أدركت أنها لفتة تربوية مهمة تحمل أبعاداً أكبر من كونها مجرد هواية أو رياضة بدنية .. ففي أعماقها فلسفة حياتية راقية .. بعيدة النظر .. واقعية البصيرة.. باعتبار أن الحياة الطبيعية للإنسان تشبه اليابسة، وأن تعلّم المشي لازم لخوض غمار هذه الحياة المكررة المملة عبر السنين الطويلة ..
لكنه لا بد من لحظات مبعثرة خلال تلك الحياة من تعرض هذا الإنسان لمواقف لا تتفق مع المسار الطبيعي الذي يدركه الغالبية ويُنَشّؤوا عليه في محاضنهم .. وكأن هذا الشذوذ في الحياة يشبه بحراً لا يلائم الأطباع ولا ينفع معه المشي الذي لاءم دروب اليابسة الطويلة .. فمن جهل العوم والسباحة كان مصيره الغرق .. فكيف إن علمنا أن طبيعة الماء سريعة التشكل والتغير والمرونة ليست كالصخور التي يلزمها قرون لتغير من شكلها .. فمن عرف السباحة يلزمه معرفة التعامل مع الأدهى من أمواج عاتية وعوامات مغرقة وبحرٌ ساحب وعمقٌ معتم .. سيلزمه تعلّم صناعة السفن والقوارب ..
كنت تجادلني يا صديقي.. وأعلم أنها رغبة منك في المناكفة فقط .. أنك ستكتفي بمشاهدة المياه دون الخوض فيها ومواجهتها.. ستحرص على تجنب أي حيْدٍ مائيٍّ حرصاً على السلامة .. ستكتفي إذن بالحياة الناقصة .. فلن تمتلك العصا التي شقت البحر .. ولن تسير على الماء بقدميك .. فقد ولّت جميع المعجزات مع أصحابها .. وأنت تعلم أن ثلاثة أرباع الأرض ماء .. ستعيش الملل يا صديقي .. ولو طلب منك الحديث في مرحلة من العمر عن حياتك مع اقتطاع اللحظات المملة وحذفها .. ستكون قصتك تشبه مليارات القصص القصيرة جداً، مملّةً معروفة البداية والنهاية .. فلا تلفت الأنظار ولا تستحق التدوين إلا في سجلات الشؤون المدنية .. لتضاف كرقم زائد في قائمة الأصفار اللانهائية ..
ستعيش ينقصك الفكر الذي ينشأ في البحر .. لن تكفِيك المراقبة من بعيد .. فإنها لن تعطيك إلا ما يظهر على السطح .. وليت السطح يكفي للحياة ..
# بقلم
# رياض الصالح
