مكتبة الأدب العربي و العالمي

لغة الصَمْت / بقلم رياض الصالح

توقفت عن الحياة يا عزيزتي.. فبعدما قرر الخيال أن يدفن روحه بيديه باتت الأحلام تدرك أن لا حاجة لوجودها .. أعترف لك بأني تجلدت كالصخرة الصماء الباردة.. وأزهقت خصوبتي على عتبة أرض جدباء ما مستها خطاك .. ضرب من الجنون انتظار الربيع في أرض اليباب .. كل شيء توقف يا عزيزتي كما أردت .. فاطمئني .. كل شيء.
كنت أتعجب كثيراً عندما أتابع أحوال البشر في تضخيمهم للمشكلات التافهة، وأستغرب الحلول المفجعة التي تتفتق أذهانهم بها، لأقف بعد مدة من الزمن أحصي الأهوال التي جنوها وكمية الجراحات التي أثخنت أرواحهم عقب المعارك التي كانت ستنتهي بكلمة قبل بدايتها لو أنهم فطنوا للحكمة التي تناسوها في حينها.. لكنني لم أعد أستغرب اليوم سبباً لأي خلاف .. فنوايا البشر الخفية تتعدى مشكلة ناقة خسرت في سباق.. لتتسبب في إشعال حرب أربعين سنة .. فوراء الأكمة ما وراءها .. والصدور تفور بالشظايا التي أشعلتها ذئاب الجشع البشرية .. فكيف أصدق بعد ذلك كلام حمل وديع يتغنى بما يدغدغ به قلوب المساكين.. وأنا أرى أنيابه تلمع مع كل ابتسامة .. ثم يتملكني العجز عن إثبات أن ما يصفق له الجميع إعجاباً.. ما هو إلا رداءٌ مخادع ..
لقد تعلمت منك يا عزيزتي فيما تعلمته .. أن أكفَّ عن اللوم والمعاتبة .. فما هي إلا وسائل الضعفاء الذين يلجؤون في العادة إلى استجداءاتهم العاطفية .. فهمت أن استثارة الشفقة مجرد تهكم يبرر للقوي بطشه بالضعيف .. فالشفقة لا تُغَيّر الطباع اللئيمة حتى لو تفاعلت معها لحظياً .. فهذه مباديء الحياة التي لا يحدثنا بها أحد .. ليتركونا لاحقاً نكتشفها وحدنا ونحن على جانب الهزيمة والاستجداء ..
تعلمت منك كذلك كيف يتحول الصمت الذهبي إلى سلاح فعال .. وما السلاح الفعال إلا ذلك الذي يدمر ولا يصلح .. ويهدم ولا يبني .. فقد ندمر قلباً رقيقاً، ونكسر يداً خيّرة، ونطفيء نوراً نافعاً ثم لا نفتأ نشتكي باكين كثرة سوءاته وضخامة ذنوبه، متشبثين بحقوقنا ومتغافلين عن حقوقه بلا إنصاف .. ونتركه يهيم في واد سحيقٍ ونحن صامتون .. ننتظر منه أن يفعل ما يتوجب عليه فعله .. وأن يفهم لوحده .. ثم ندعي أننا نتألم لآلام جهله .. ونتسلى برؤية مئات الأسئلة .. الاستنكارية منها والاستفهامية ..تنهش روحه وتمزق جسده .. رافضين مد يد العون بجواب واحد مداوي .. سوى أن نرفض الحديث و نرفس الكلام ونصنع الصدمة، يأخذنا التركيز لصوغ رواية ملائمة لتبرير المشكلة .. مخفين نوايانا المبيَّتة لافتعالها.. ونتعلم إتقان البكاء بصدق على ما حصل لنخدع مرآة الحقيقة ونحن واقفون أمامها غارقون في نحيب الدموع المصطنعة..

تعلمت من نوع بكائك الصامت هذا يا عزيزتي .. كيف تتحول لغة الصمت إلى يد الضحية لاحقاً بفعل العدوى .. ليحترفها كسلاح انتقاميّ مُجدٍ وفعّال .. فالبشر يحترفون صياغة سمفونياتهم المنطقية فيما يخدم مصالحهم .. كما يحترفون تغليفها بالعاطفة الجياشة إذا لزم الأمر .. لكنهم كذلك يحترفون صَمَّ آذانهم عن منطقية واقعية قوية ظاهرة .. تصدح بها حناجرٌ ضعيفةٌ ملتهبة .. ليطبقوا بصمتهم القوي القاتل زارعين اليأس في تلك الأصوات التي لو احتكم البشر لمنطقها العفوي لما طال على الأرض خصام .. لكن الطريق مفتوحة دوماً لادعاءات مزيفة مطليّة بالعاطفة .. تجاري الصدق في تعبيرها .. والتأثير عند بكائها .. والقوة في طرحها .. مستغلة ثغرات القانون ..هي بالعادة لا تخسر القضية حتى بانكشاف زيفها وتظاهرها أمام الحقيقة .. لكنها منطقية الواقع .. وتفوّق إفك المصالح البشرية ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق