مقالات

معاناة قلمية

رياض الصالح

شاق جداً ذلك الطريق المخالف لطبائعك النفسية، ومتعب للغاية حتى لو كان هيناً سهلاً كما يحكم عليه الغالبية، فلو كنت من هواة المغامرات لن تلتفت لما يقدر عليه الآخرون، وما يستطيعه المتكاسلون، حتى وإن قررت خوض ضحالة الشاطيء أبت عليك روحك المعتادة على الغوص، فلا تعاتب إلا قراراتك المتساهلة إن كانت نهايتك الغرق في شبرٍ من الماء.
سأعتذر من نفسي هنا إن جدفت مع تيارها الطبيعي الواضح والصريح، وقد اعتادت أن ترتدي الغموض في تصريحاتها القلمية، ليس حرصاً مني على مأرب خاص ولا مناورة متفذلكة لتحصيل الغنائم، إنما هي خطة مدروسة مارسها عقل مستقل على نفسية تواجه اضطراباً ذاتياً بين معضلة الصراحة والغموض، لذلك كان لا بد من التدخل لفض النزاع وتغيير الدفة نحو ما يضمن استمرارية العطاء وغزارة الإنتاج، فما كان الغموض إلا كحفرٍ في الصخر وإهلاكٍ للمعدات.
ترى كيف سيكون وجه العالم لو كانت الحقائق مكشوفة كالشمس، واضحة للعيان، مبهرة للعيون، بدلاً من ذلك الليل البهيم الأليلِ الذي لا يصلح إلا لحياكة الزيف والألاعيب الكاذبة، أتصور أنه سيكون عالماً خالٍ من مظاهر النفاق الذي يزكم أنوفنا في كل اتجاه، ولن يتبقى إلا ما تفرضه المنفعة العامة أو الحاجة المُلِحّه.
في ذلك العالم كما أتصوره لن تجد آلاف القنوات الإعلامية ولن تضطر لمتابعة ملايين التحليلات لخبرٍ ظاهره شيء وباطنة آلاف الأشياء، لن تجد حاجة لمساحيق التجميل المخادعة، بل كل التقدير لجمالية الروح ونقائها الإنساني، لن يعاني أحدنا في متابعة وسائل كشف خبايا الناس ولا سبل قراءة الوجوه أو الحركات، وستختفي حينها كثير من مظاهر الترف التي تعود عليها عالمنا لإخفاء حقيقة الشظف الذي يعيشه، لا داع حينها لسياسة التظاهر أو التملق ولا حتى للمجاملات المخادعة المفرطة، ستتكفل المشاعر بإيصال رسائل واضحة لا تحتاج لاختبارات كشف النوايا بعد كساد سوق الأقنعة، وستعود رجولة عنترة تجهر باسم عشيقته لا يخش الرماح التي تستَّر في ظلالها خوف الأدب المعاصر، سيعرف كثير من البشر حينها بسهولة ذلك الفرق الضروري بين الأوهام والحقائق، وسيكتشف كل فرد ذاته الحقيقية دون المعاناة في إزالة العلق والشوائب التي التصقت بروحه أثناء مساكنته للمستنقع العفن الذي لا تزيل رائحته بحارٌ من العطور الغريبة المستوردة.
أعتذر مرة أخرى أنني أجدف مع تياري الصريح في نهرٍ تعود على تياراتٍ توافق المجرى العام، لكنني فرحٌ كذلك بنجاح خطتي الذاتية بإقناع أناملي بعد حميتها الإجبارية أن تخضع لمطالبي وتعلن استسلامها.

رياض الصالح
٢٤/٤/٢٠٢٤

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق