مقالات
ثلاثة_أيام_تحت_رحمة_الماء: حيفا … فلسطين
جرت احداث هذه القصة في عام 1965 من القرن الماضي مع العم جهاد حنا ذياب حايك، ويروي لنا في القصة عن رحلته في قارب العائلة العزيز على قلبه، وماذا حدث عندما قرر والده بيعه.
مكان القصة: بحر حيفا، وكان يسكن هناك في تلك الفترة.
القصة كالتالي واكتبها على لسانه:
“كان عمري سبعة عشر سنة في تلك الفترة، و قمنا انا ووالدي بشراء قارب صغير بتكلفة 14000 ليرة، وفي يوم من الايام قرر والدي ان يبيع القارب مقابل 6500 ليرة فقط ليأخذ منها مبلغ 500 ليرة ليدفعها لرجل عراقي يدعى دافيد لأنه كان قد وعده أن يدفع له النقود في فترة شهرين ولا يريد ان يكسر وعده، وقد أتخذ القرار من دون ان يخبرني.
في تلك الفترة كانت جملة شائعة بين الصيادين والبحارة بأن الشخص الذي يريد ان يُبحر الى قبرص عليه ان يخرج من ميناء حيفا ويبتعد وعندما يصل الى مكان حيث لا يمكنه رؤية فنار حيفا سيرى فنار قبرص، وعلى هذا الاساس قررت اخذ القارب وأن أهرب به الى قبرص لأنني لم اوافق والدي على بيع القارب.
ومن دون الكثير من التفكير بل من شدة حبي للقارب الذي امتعنا في رحلاته في بحر حيفا والذي كان يشكل لنا مصدر معيشة، قمت بأخذ القارب من دون اي طعام وحتى من دون التزود بل بنزين، فقد اخذت بعض الليرات التي كنت قد جمعتها من عملي كحامل للحقائب في فندق في الكرمل وقلت في نفسي سأتزود بكل شيء احتاجه بعد ان اصل الى قبرص وقد ظننت بأنني سأصل خلال فترة قصيرة فقد سمعت مرةً من بعض الصيادين بأن قبرص قريبة من حيفا.
انطلقت رحلتي تقريباً في تمام الساعة الثامنة ليلاً وصعدت على متن القارب وشغلته وكانت تلك المرة الاولى التي أخرج بها لوحدي، وبدأت رحلتي و كان كل شيء على طبيعته، كنت فرحاً وأغني وتلاعبني الامواج الخفيفة بلمساتها الهادئة.
لكن هذا الشعور لم يدم طويلاً .. بعد ساعتين تقريباً سمعت صوتاً غريباً لم اسمعه من قبل، فاكتشفت بأن هذا الصوت هو صوت المحرك الذي انطفأ لأنه قد فرغ من الوقود الذي لم اتزود به لأن قبرص قريبة .. او كنت اعتقد بأنها كذلك.
انطفأ المحرك وتوقف القارب في مكانه، ومع تأخر ألوقت واقتراب منتصف الليل بدأت درجات الحرارة تنخفض وبدأ البرد يكسوا جسمي النحيف وبدأت الامواج التي كانت تلاعبني منذ قليل على نغمات اغنياتي الهادئة بالهيجان وبدت كأنها جبال من الماء ترفع القارب الى الاعلى و تهبط من جديد وشعرت كأن البحر في تلك الليلة سيلامس السماء من شدة علو الامواج.
ومع شعورٍ مختلط بين الخوف الذي في داخلي ومع دوار البحر الذي ينتابني في كل مرة اصعد فيها على متن قارب، لمحت عيناي اللامعتان مرساة القارب في طرف المركب، كشعور أبٍ يحتضن طفله المولود حديثاً للمرة الاولى حملتها، وقد بلغ طول حبلها سبعين متراً وألقيت بها في البحر ولكنني كنت في منطقة من البحر حيث عمق البحر كان اكثر من ذلك بكثير وللأسف لم تعانق المرساة الارض وبقيتُ اللعبة التي قررت ان تتسلى بها الامواج في تلك الليلة، وهكذا مرت ليلتي الأولى.
و مع اقتراب الفجر في صباح اليوم الثاني استيقظتُ مذهولاً من صوت باخرة ضخمة تمر بجانبي فخلعت قميصي المبلل بالمياه وبدأتُ ألوح فيه وأصرخ وأنادي ولكن من دون جدوى فقد كنت كعصفور صغير يحاول أن يغرد في ظل حرب تملئها اصوات الصواريخ لشدة صغري امام تلك الباخرة الضخمة، فجلست اشاهدها مع شعور اليأس وهي تبتعد عني حتى لم تعد تصل لها عيناي.
ماذا سأفعل ألان .. فقد بدأت اشعر بالعطش وبدأت اشرب من مياه البحر المالحة والتي زادت الامر سوءً لإرتفاع نسبة الاملاح في جسدي المرهق و بدأت اشعر بالعطش اكثر مما كنت من قبل، يا اللهي ماذا يمكن أن يحصل لي اسوأ من ذلك؟
وهكذا مر اليوم الثاني مع ازدياد شعوري بالجوع والعطش ومن دون اي سبيلٍ للنجاة من هذا البحر.
في فجر اليوم الثالث وبعد أن استيقظت من غفوةٍ لا ارادية كان قد اتخذها جسدي من شدة التعب والارهاق قررت بأن القي بعجل الانقاذ الذي كان يستعمله والدي للصيد في رحلاته في الماء والاستلقاء عليه وفلتأخذني مياه البحار بين احضانها الى مصيري المؤكد .. واخذت العجل وقبل ان ألقي به بلحظات واذ بعامود شاهق الارتفاع يخرج من قعر الماء بجانبي، فتذكرت فوراً الفيلم الذي كنت قد شاهدته قبل اسبوع مع اخوتي عن الغواصات وأدركت بأنها غواصة، فبدأت اصرخ وانادي لعل احد منهم يسمعني ويأتي لنجدتي، فبعد بضع دقائق ظهر من على متنها بعض رجال الشرطة وبدأت الاسئلة تهبط علي من كل طرف:
“من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ من أين أنت؟”
فقل: “أنا من حيفا أنا من حيفا”
فأحضروا لي البعض من الطعام والليمون مع الثلج البارد فشعرت هنا بأنني قد عدت للحياة من جديد.
وبعدها قالوا لي بأنه لا يمكنني الصعود على متن الغواصة فستأتي سفينة من بحرية حيفا وستربط قاربي بها وسيتم سحبي الى حيفا.
وبعد انتظار دام ساعتين تقريباً وصلت السفينة التي كنت انتظرها وقاموا بإنزالي في ميناء حيفا وقمت بربط قاربي في مكانه كأن شيئاً لم يحدث، واتى فوراً الي عقيد من الشرطة يدعى حاييم يتحدث اللغة العربية بطلاقة وكان صديقاً لوالدي وقال لي: “يا عكروت شو عملت بأبوك صرله يومين مجنّنا”.
وبعدها أخذني في سيارته الى والدي، لوهلة لم اعرفه فكانت لحيته قد نمت ولم يحلقها وكان الغضب يعتلي تعابير وجهه العابس وعاد بي الى البيت.
وبعد مرور عدة أيام وبعد ان عدت الى عافيتي عدت الى عملي في الفندق كحامل للحقائب، وأثناء ممارستي للعمل اقترب مني رجل غريب وقال: ” تلعبش بالسفن المرة الجاي”.
وقال لي بعدها بأنه كان قائد السفينة التي قامت بسحبي من البحر الى ميناء حيفا بسلام…
منقول …فراس بدر