مقالات

” ما كانَ أَبْيَنَ مَنْ بَيَانهمَا “

بقلم الفنان مارسيل خليفة

عاصي ومنصور في فوّار انطلياس يتهامسان : أنت انا وأنا أنت ، وما بيننا الأُرجوان وموكبُ الزمان على جسدٍ كًنَّاهُ سويّاً ، وكان لنا خيمةً منصوبةً على تُخُوم حقل من الزَّنبَق .
عاصي ومنصور في انطلياس حيثُ يقيمان ، ومن ثمّ في أقاصي الدنيا حيث تَشُّدُّ أعمالهما رِحْلَها وتغتربُ . ولسعةُ الشِعر في شِعرهما لغةٌ تَفوحُ لها رائحةُ المدى وينتشر عرْفُها في البعيد ، فلا هي من قديم معتَّق في جِرار الكلام ولا هي من بقايا مُنمنمات الألحان .
الراهب الأنطوني بولس الأشقر أستاذهما الأول منذ قَذَفَتْ به السماء في دَيْر مار الياس بانطلياس وأَشْعَلَ بمزاميره الرائدة ومقاماته الصادحة عطش صحراء الخامتان الواعدتان . وكانا أمام جملتين مطرزتين بِسَجْعِ النهاوند ينحنيان ويبكيان ، أو من سكرة بايقاع السَمَاعي الثقيل يَأثَمان . تلك رحلتُهما ولوعتُهما ومتاعُهُما الأقْدَمْ . وبولس الأشقر كتاب يعلّمُهما كيف يأنَسان بما تَعَلَّما .
الأخوان فَتَّحا الأبواب الذي لا حُرّاسَ عليه وأطلقا السحريّ في الموسيقىى والشِعر شهداً يتقطَّر . وهبا الوجود الممكن للمُحال وصنعا في لحظة صمت ما قال العاشق لعشيقته حين شَعَّ الحنينُ الى الوصال ، وأطلقا في البياض موجَ الرحيلِ الى البعيد على صَهوة الشهوات .
فيروز سورةٌ ترتلُها القادمات من أغاني الريف تَحمِلن القِراب صُبحاً ولقطاف مسائهنَّ تُهيًئْنَ السِلال . صوتها حكمةٌ ورعشةٌ يعرفها الأنبياء ، قرينُ رؤيَةَ ما لا يُرى . صوتها الوجعُ الشديدُ يرفع روحاً عن المألوف . صدى البعيد الذي يأتي ليأخُذَكَ . صوتها الشدَّةُ والصَّدمةُ والدهشةُ ، وهو الولادةُ من مخاضٍ لا ينتهي . هو الكرزُ على صدور قُرَويّاتٍ يَحملنَ حطب المساء البارد ، ويروضْنَ بالمواويل شَبَقَ الماعز أو يردّدنَ نحيب الروح في الجهات . هو أولُ الحب وبُحَّةُ الناي في مساءات الرُّعاة . هو أغنيةٌ ترصِّعُ صورة تُحاكي ما في الروح من نسقٍ فوضويّ يُشيّدُهُ الخيال .
اتذكّر عندما كنت شاباً صغيراً ، متحمسّاً أخرقاً وكنت أريد أن أغيّر العالم التقيت بعاصي ومنصور وفيروز في بلدتي عمشيت ببيت بطرس جريس سعد حيث كانوا في زيارة عائليّة . اذكر كيف تحولت الضيعة الى ساحة من ساحات اعيادهم . كنت أقف بقامتي الصغيرة ، قرب حافة الدرج الطويل المؤدي للبيت العالي ، أقف بعد ان ينتشر الخبر بالساحة بأن الرحابنة مدعوّونَ على ” الغدا ” في هذا البيت العمشيتي . كنت اتهامس ورفاقي الصغار ، حين نلمحُ وجهاً من وجوه هؤلاء المدعوّين : عاصي ، منصور ، فيروز .
وعندما بدأت بالدراسة الموسيقيّة ، وفي إحدى زيارات العائلة الرحبانيّة المتكررّة ، دُعيتُ مع عودي الى البيت العالي ، دخلتُ ، لستُ اذكرُ كلاماً ، اذكر أنني تعثرت بطرف السجادة في وسط الدار ، احمرَّ وجهي خجلاً تمالكت عندما سمعت عاصي يقول لي : شو بدّك تسمعنا يا شاطر . وعزفت لونغا نهوند كنت قد تعلمتها في الكونسرفاتوار . عزفت بصوت خافت ، مستعجل ، وفي وجهي اعتذارٌ كأنني أفعل شيئاً عاطلاً وأريد أن أخلُص منه بسرعة . وحين اعود الى البيت الى وجه أمي وأراه مشرقاً يحرضني على اجوبة لأسئلة كنت أقرأها في عيون ماتيلدا . أخبرها عن إطلالة منصور وكلام عاصي وصمت فيروز واخبرها عن تهيّبي أمامهم فتذكرني بأن لي موعداً مع استاذي في التمرين على العود .
” حين بكى الطفل وأراد أن تقطف له أمه القمر ، أتت بدلو الماء وصوبته الى السماء ، مدّ الطفل يده الى الماء فانكسر القمر ، ضحك الطفل ثمّ نام ” صحيح ان الولد ضحك ثم نام . أما انا فبقيت ساهراً ألملم تناثر القمر على وجه ذاكرة تموج كالماء الهارب من الولد ليغطّي مساحات شاسعة من الزمن . يصبح ماء الدلو جدولاً نهراً بحراً ضجيجاً غناءً رقصاً سكراً عرساً وجعاً ناراً تصهر كل ما قسا فيّ وتحجّر وتعيده جديداً نديّاً نقيّاً مثل قربانة أولى أو مثل قبلةٍ أولى . عاصي ومنصور وفيروز رأيتهم يصقلون مرآة للقمر على صفحة الماء ، يضحكون كالأطفال أمام انكسار القمر .
عاصي ومنصور بعد سيّد درويش مَنْ قلب معادلة الغناء العربيّ . معهم انتقل الغناء من التلحين الى التأليف الموسيقي . حيث النص الموسيقي يعيد كتابة النص الشعري ثانية وحيث يحرّر في الوقت عينه – الأداء الصوتي ليعبر عن نفسه من الداخل . ولقد افلحوا في استخراج موسيقى الشرق المخبوءة بالعودة الى الينابيع ، الى التراث البيزنطي والسرياني الكنيسيّ ، والى التراتيل والمدائح والآذان ، والى المقام والموشحات والقدود والادوار والموّال والى التراث الشعبيّ فأخذوا من مخزونه ليعيدوا كتابته بلغة موسيقية اوركسترالية انيقة وباذخة الجمال . والتزموا قضايا لبنان وامتهم العربيّة ، وفي القلب منها قضية فلسطين ، والتزموا القضايا الاجتماعيّة العادلة للفقراء والمحرومين والمهضومة حقوقهم ورفعوا الصوت جهيراً ضد الاحتلال والاستغلال والاستبداد . ومعنى الالتزام عندهم خرج من حدود الوطنية والقومية ليفيض عنها الى الرحاب الانسانيّ الكونيّ .
تلك رسالتهما الفنيّة الحضاريّة التي ذهبت في رحلة مديدة من انطلياس الى رحاب الكونيّة .
شكراً عاصي ومنصور وفيروز لكل هذا الفيض من الجمال والابداع الي قدمتموه زاداً لثقافتنا وذائقتنا . شكراً للصبر والصدق والاصرار على خط الالتزام الانساني .
عاصي انت غني ، غني ، غني ، غني ، رغيفك طيّب المذاق وقوت كبير لمن يمر بضعف في العزيمة .
منصور كلامك الكبير يجعلنا نخجل ألاّ نحاول أن نكون كباراًً .
فيروز غنّي كثيراً لأن البشاعة تملأ الوطن .
أقبّل صوتك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق