مقالات

و نقطع الدروب .. رياض الصالح

شوارع مكتظة بالعابرين .. أزمات مرورية خانقة .. و العديد من البشر .. و الكثير من الأشياء .. و من أنا أو أنت يا عزيزتي .. مجرد أفراد نعوم في خضم هذا البحر المجهول الواسع .. لا يكاد يلحظنا إلا المترقب لنا .. و المعنيُّ بنا لحاجة ما .. فقط ..
نحن مجهولان التقيا في زمن يعج بالمجاهيل .. في حفلة مجهولة صاخبة .. عقدت بالصدفة في سوق مكتظ بالباعة .. مزدحم بالزبائن .. متقيؤ بما لا يحصى من البضائع .. في موسم بات لا يعبأ بالجودة .. و لا يلتفت للقيمة .. و لا يغريه غير السعر الهابط .. أو طريقة العرض المصاحبة لتلك اللمعة البارقة الزائفة التي يتفنن المخادعون في طبعها ..
يراودني إحساسٌ مترنحٌ .. يثير ارتجافات غريبة الطبع في أطرافي .. يا عزيزتي .. كلما راقصت أفكاري لوحدي .. في سوق المجاهيل ذاك .. و قد تعودت أن أراقصها برفقة خطواتك السائلة .. و على أنغام كمانك العقلاني المنساب كسَيْلٍ متعرّج من قمم الجبال الثلجية الذائبة .. يا لروعة ما تدُرّ على بيادر ذهني تلك السيول الذهبية .. و يا لحسرتي المرتجفة إذا ما تراءى ليَ في الأفق شتاءٌ باردٌ يجمد السيول و يعطل الدفقات الدافئة ..
تساءلت كثيراً .. و أنا أسير وحيداً في شارعٍ مختنق بالعابرين .. إذا ما كنت أنا من أعني لذلك الشارع شيئاً .. أم هو الذي يعنيني .. ترى .. هل نحن الذين نصنع تلك الحركة الخلاقة فيه .. أم أن ذلك الجماد المعَبّدُ و الذي يشقُّ أرضاً عذراء خجلى متمنعةً على المارة .. هو الذي يخلق تلك الحركة و يحفز ذلك الدافع لها ..
و بعبارة أخرى .. أنحن من نستفزه بتعكير سكونه .. و احتلال أرضه .. و ملء فراغه .. ثم إجباره لتحريك جوانبه .. و استثارة هوائه .. كلما سرنا أو ركضنا فيه .. أم أننا نحن البشر .. المدفوعون برغبة الفضول .. أو رغبة التنقل و الوصول .. تستفزنا الدروب الفارغة الصامتة فنملأها .. و تستحثنا رغبة المغامرة لخوض المجهول .. من أجل صناعة الحركة التي جبلت عليها أنفاسنا و نبضاتنا و أرواحنا المتقدة ..
كذلك هو الحب يا سيدتي .. درب طويل شاق .. يثير قلوبنا المتحفزة .. و يستفز أرواحنا التائهة .. و يدعونا بسكونه الملفت و جموده المريح .. و آفاقه المجهولة .. لنختبر طوله و عرضه .. و نشاركه هدوءه و سكينته .. و نتطلع إلى نهايته و مبتغاه .. حتى نقذف بأول خطوة في تعاريجه الصعبة .. لنتورط في أزمته الخانقة .. و نتقيد بقوانينه الدائرة .. فنعاني مشاق اللوعة .. و حسرة الفراق .. و أرق الاشتياق .. و ندرك أننا في خضم مسؤولية تعطي للأولوية حقوق احترام .. تتميز بالذوق و النزاهة و الصبر و إحسان القيادة .. و نكتشف و نحن فيه .. أن كل ذلك السكون المقيم بذلك الدرب .. إنما كان ناشئاً في مخيلاتنا فقط .. و ما كان يُخفي عن قلوبنا الحقيقة إلا تلك الرغبة الدقيقة في أعماقنا للحراك .. و التي كانت تزوّر لنا كل ما سمعناه من إرشادات و ما حفظناه من إشارات ..
لكنها الحياة كلها دروب يا عزيزتي لا غنى عنها .. تشدّنا إليها بحبال الرغبات .. و تزين لنا الآفاق .. و تحيك لنا الأحلام .. و ترسم لنا الخيال .. و تحفِّزُ فينا الهمم .. و تعيننا على النضوج .. و لا نضوج إلا بقطع الطريق ..
تعلمت في رحلتي أن لا أحكم على طعم الثمرة حتى تنضج .. فلا يحق لي أن أحكم على العنب بالحموضة لأنني تناولته حصرماً .. فكلما مضى فينا الزمن تغيرت أطعامنا .. و تبدلت أشكالنا .. و اقتربنا من فهم ذواتنا أكثر .. حينها فقط .. نستطيع أن نحدد طبائعنا بشكلها الحقيقي و ندرك صفاتنا بعد اكتمالها .. و الخير كل الخير يكمن في تلك الدروب التي أمدتنا بالتجارب و طوقتنا بالصعاب .. لتخرج من جعبتنا كل ما فيها .. و لا يكون ذلك إلا بالجرأة على التحرك ..
فليس وحيداً ذلك الذي تعود قطع الدروب .. و مرافقة العابرين حتى لو لم يعرفهم .. طالما ظل متحركاً نشطاً .. فعندما يتقدم .. سيتحرك معه كل ساكن .. و عندما يقف .. سيكون مثل الحصى على الطريق فقط .. و لو خالط أولئك المتحركين الناشطين .. لأضافوه حتماً لقائمة من ساهم في صياغة رحلتهم .. و لو كان بالنسبة لهم شيئاً عابراً ..
لا أريد تعقيد الأمور عليك .. لكنني انتبهت إلى تحرك كل الأشياء الثابتة على جانبي الطريق كلما تحركت أنا .. و لاحظت وقوفها كلما وقفت .. فعلمت أن المتحركين .. هم الذين يحركون معهم كل ساكن و يصطحبون في طريقهم كل شيء جامد يمرون به .. فكيف يستشعرون الوحدة .. و هم على درب مليء بما لا يعد و لا يحصى من الساكنين …
علمني دربي يا عزيزتي أن الوحيد هو ذلك الساكن الجامد الذي يخالط الساكنين مثله .. فتتعب العين من نظرتها الجامدة .. و يملّ القلب من ثباته في نفس المكان .. و يبقى الحال كما هو لأن الزمن لن ينضج ثمرة توقفت عن الحياة .. و لم تؤمن بقداسة التغير .. و انفصلت بإرادتها عن شجرتها أو دربها ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق