مكتبة الأدب العربي و العالمي

القريه_المخيفه الجزء الثالث

وضحك كثيرا عندما أخبرته عن ليلتي مع الذئاب، وهو يقول ببساطة:
-ستعتاد هذا الوضع … لا تقلق. ثم سألني عما تحتاجه الوحدة الصحية، فأخبرته أنها تحتاج للكثير من النظافة من الخارج والداخل، ولبعض الأدوية والمعدات حتى يصل التموين من وزارة الصحة، فطلب مني أن أكتب له كل ما أحتاجه في ورقة، وسيرسل هو شخصا إلى المركز ليجلب المطلوب، أما عن الوحدة فجاري تنظيفها ودهانها في تلك اللحظات وسيتنهي العمل بها بعد ساعات … سألته عن الطبيب الذي كان موجود قبلي، فاختلج وجهه للحظة، وبدا أنه لم يكن مستعدا لهذا السؤال، وهو يجيب إجابة مبهمة:
-لقد رحل. أصطحبني العمدة في عربته التي يجرها حصان أسود قوي، وقمنا بجولة قصيرة في القرية، سألته عن ذلك المبنى ذو الأعمدة، المحفور في الجبل، فقادني إلى داخله وهو يشرح لي:

– لا أحد يعرف من الذي بنى هذا المبنى وشقه في الجبل ولا متى حدث ذلك! ولكنه موجود هنا حتى قبل وجود القرية نفسها، هكذا أخبرنا الأجداد.

توقعت أن أجد المكان من الداخل متسعا، فسيحا، ولكنه كان محبطا للغاية، عبارة عن بهو ضيق بمساحة ثلاثون مترا مربعا فقط، له سقف مرتفع، تنتشر به أجولة الغلال وأكوام القش وبعض الأدوات الزراعية، أوضح لي العمدة، عندما رأى الدهشة في عيني، قائلا:

– نستخدمه كشونة لتخزين الغلال.
بعد ذلك صحبني العمدة أيضا لمقابلة كبراء القرية، وجميعهم أناس طيبون على فطرتهم، رحبوا بي ترحيبا حارا، ووعدوني جميعا بأن يكونوا في عوني إذا احتجت أي شئ، وتلقيت منهم الكثير من دعوات الغذاء، كانت أولها طبعا من العمدة شخصيا …

جلسنا على مائدة الغذاء في بيت العمدة، وبدأ أهل البيت في جلب أطايب الطعام القروي ذو الرائحة المغرية، والطعم الشهي، وصفها أمامنا على الطاولة، قال لي العمدة:

-عذرا على أنك لم تستطع البدء مباشرة في العمل بالوحدة، فكما لاحظت كان الوضع معطلا لفترة طويلة.

أجبته عازما على أن أحكي له عن زائرة الفجر:
– في الواقع لقد بدأت العمل بالفعل من الأمس … و
قاطع كلامي طبق (البامية) الذي سقط أمامي على الطاولة، وتناثرت منه قطع (البامية) وقطرات الصلصة على وجهي وثيابي، صرخ العمدة موبخا تلك الفتاة التي أسقطت الطبق، فنظرت لها رغم أنني كنت أغض بصري طيلة الوقت، ولا أنظر لمن يضعون الطعام على المائدة، المفاجأة، أنها كانت هي تلك الفتاة، الشابة، الحسناء، التي زارتني بالأمس، عرفتها من عينيها العسليتين، رغم أنها كانت تصك وجهها بالوشاح، وعرفتها أيضا من رباط الشاش على ساعدها … كان العمدة ما زال يواصل صراخه، وقد نهض ليجلب من ينظف المكان، رحلت الفتاة بسرعة بعد أن همست في أذني:
– لا تخبر أحدا.

عاد العمدة ومعه خادمة عجوز تحمل إناء به ماء وقطعة من الصابون ومنشفة، وضعته أمامي لاغتسل، وتوجهت هي لتنظيف المائدة من آثار حادثة (البامية)، قال العمدة معتذرا:
– أعذر ابنتي (بدور)، فهي حمقاء تماما.

اغتسلت بسرعة، وأنا أوضح له أن ماحدث كان أمرا عارضا، ولم يضايقني البتة، ثم عدنا لاستكمال الغذاء الشهي، طلب مني العمدة أن أكمل ما كنت أقوله، فغيرت مجرى الحديث قائلا:
– كنت أريد ممرضة أو ممرض معي في الوحدة من أجل استقبال المرضى ومساعدتي في بعض الأعمال، سأقوم بتدريبها بنفسي.
نهش العمدة قطعة كبيرة من فخذ البطة الذي كان يمسكه في يمينه، ولاكها في نهم وهو يقول:

-(العم شقص) … سيكون معك، دربه كما تشاء.
***

أعادني العم شقص للوحدة الصحية، وهناك رأيت الدليل على قوة، وتأثير عمدة القرية، فالوحدة كان قد تم طلاؤها من الخارج والداخل وتم تنظيف الأرض حولها وتمهيدها، وإضافة بعض الأرائك لاستقبال المرضى في الخارج، أما من الداخل فكان المكان نظيفا، لامعا، مرتبا، وعابقا برائحة المطهرات، تمتمت بذهول:
-عمل رائع.
أشار (العم شقص) إلى صندوق كرتوني ضخم في ركن من المكان، وهو يقول:

-هذه بعض الكراكيب، والأدوات الصدئة، والمحطمة … الرجاء فحصها والتأكد من إمكانية التخلص منها، وسأعود غدا لأفعل ذلك.

– هل ستذهب الآن؟
– أجل.
صمت للحظة ثم أردف:
– قد أتأخر غدا قليلا لجلب الطلبات التي أردتها.
– حسنا.

توجه (العم شقص) إلى الباب، ولم ينس قبل أن يرحل، أن يذكرني بتحذيره الأثير:
-لا تخرج من الوحدة بعد المغيب، أنت تعرف الآن ما يحدث.
– أعرف.

ذهب (العم شقص)، فقمت بسرعة بفحص صندوق الكراكيب، كلها أشياء بلا قيمة يمكن التخلص منها، ثم لفت نظري تلك الأداة المصنوعة من الصلب، كانت بحجم كرة القدم، ومكونة من سلسلة وعدة تروس، ولسان منزلق، وطرف حاد مسنن كالسكين، ترى ما هذا الشئ!؟ … ثم برقت الإجابة في عقلي مرة واحدة، إنه فخ لصيد الحيوانات البرية، يمكنك أن تحرك هذا الجزء العلوي، وتثبته بالسلسلة، وإذا داس الحيوان على هذا اللسان المنزلق، فسوف:
– كرااااااااااك.

كان ذلك هو صوت الفخ بعد أن أغلق بقوة، اللعنة، لولا أن سحبت يدي في آخر لحظة لقطعها … الآن تراودني فكرة بأن أجهز هذا الفخ وأضعه خارج نافذتي، في محاولة لإرهاب تلك الذئاب الملعونة، هل فعل ذلك الطبيب السابق؟.. هل هو الذي جلب هذا الفخ؟.. وهل نجح في ذلك؟.. أسئلة لن أعرف الإجابة عليها ابدا.
***
طرقات على باب الوحدة الصحية قبل دقائق من مغيب الشمس، فتحت الباب، فوجدتها هي، دخلت بسرعة وهي تتلفت خلفها خوفا من أن يكون هناك من رآها، قلت لها:
– كيف حالك؟
ثم ابتسمت وأنا أضيف:
– يا (بدور).
نظرت لي بدهشة وهي تجيب:
– هل عرفت اسمي!؟
– أخبرني به أباك؟

نظرت في وجهي للحظة، ثم توجهت إلى غرفة الكشف ومدت لي ساعدها المغطى برباط الشاش بطريقة عملية، أخذت أحل الرباط، وأنا اقول ساخرا:
– كانت (البامية) شهية جدا.

ضحكت في خفر، وهو تقول:
– أنا آسفة.

صرخت في ذعر، بعد أن حللت الرباط كله:
– اللعنة.
– ماذا … هل هناك ما يسوء؟
– الجرح.
نظرت الفتاة إلى ساعدها في خوف، فقلت موضحا:
– الجرح اختفى تماما، لا يوجد أي أثر له، حتى الخيط الجراحي سقط خارجا.

نظرت إليها، فلمحت الذعر يكسو وجهها الذي تحول إلى اللون الأزرق، جحظت عيناها، وهي تقول بصوت مرتعش:
– إذا هو يحدث.

نهضت بسرعة، وانطلقت تعدو باكية إلى خارج الوحدة الصحية، شعرت بالذهول للحظات ثم انطلقت خلفها، أنادي عليها، أطالبها بالتمهل … لمحتها تختفي خلف غابة من الأشجار المتشابكة على بعد مائة متر في الناحية المقابلة للوحدة الصحية، فتوجهت خلفها مباشرة، ولكنني كنت قد فقدت أثرها، أخذت أبحث عنها داخل تلك الغابة لدقائق، ولكن الليل كان قد حل وألقى بظلامه على كل ربوع القرية، هنا سمعت العواء المتحشرج المرعب.
***
سمعت العواء المتحشرج، المرعب، والكارثة أنني سمعته على مسافة أمتار قليلة من موقعي،

استدرت على عقبي، وانطلقت أعدو إلى الوحدة الصحية، مئات الأمتار تفصلني عنها … أشعر بأصوات زمجرة قريبة، وبدبيب أقدام على مسافة ليست بعيدة عن موقعي، إنها تطاردني، حثيثة في أثري، ألقى الرعب دفقا هائلا من الطاقة في عروقي، فصرت أعدو بسرعة هائلة، تكاد قدماي لا تلمسان الأرض، الوحدة تقترب بسرعة، ودبيب الأقدام يقترب أيضا من خلفي، يصحبه أصوات زمجرة جشعة، لقد وضعت نفسي بغبائي في وضع الفريسة بعد يوم واحد من تواجدي في هذه القرية اللعينة، أشعر أن مطاردي على مسافة أقل من عشرة أمتار من الأمساك بي، وباب الوحدة الصحية يبعد خطوات قليلة فقط، ثلاث قفزات طويلة وأصبحت داخل الوحدة الصحية، ومددت يدي بسرعة لأغلق الباب خلفي، وفي اللحظة التي أغلقت فيها الباب لمحت مطاردي، لمحته لثانية واحدة وهو يحاول الوصول إلي قبل إغلاق الباب، صرخت بقوة وأنا أغلق الباب وأحكم أقفاله بإسقاط المزلاج في مجراه:
– اللعنة … ما هذا الشئ!؟ … هل كان ذلك ذئبا بحق!؟

في اللحظة التي لمحته فيها ، أدركت أنه ضخم كالدب، له رأس كبير وفك عملاق وأنياب طويلة، بارزة، كان يعدو على أربع بقائمتين أماميتين أطول من الخلفيتين، وله حدبة عملاقة في ظهره، لقد كان قبيحا، ومخيفا، وبدا متوحشا للغاية … لست خبيرا (بيولوجيا)، ولكنني لم أر ذئبا بهذا الشكل من قبل، هل هي فصيلة نادرة تعيش في تلك المنطقة المنعزلة، لم يرها العالم من قبل!؟

 

من قصص حكايا العالم الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق