مكتبة الأدب العربي و العالمي

القريه_المخيفه الجزء الثاني

وفي جدار الوحدة الصحية … من الواضح أن هناك ذئب وراء تلك النافذة اجتذبته تلك الرائحة الجديدة التي تصدر الليلة من داخل الوحدة الصحية، رائحة طبيب شاب، مكلف، عاثر الحظ، لحمه شهي يصلح كوجبة للعشاء.
اعتدلت في فراشي بسرعة، ونظرت نحو النافذة، تنهدت بارتياح عندما وجدت تلك الأطر المصنوعة من الصلب التي تدعم النافذة، لن يستطيع ذلك الذئب اختراقها، أنا في أمان في الداخل، لقد كان (العم شقص) صادقا … فجأة علا ذلك العواء من خارج النافذة، كان مرعبا للغاية، وخصوصا عندما يكون بهذا القرب، ثوان وامتلأ المكان بمجموعة أخرى من الذئاب أخذت تخمش في نوافذ، وأبواب الوحدة الصحية وجدرانها، وهي تتقاتل، وتزمجر، وتطلق عواءاتها المرعبة من حين لآخر … ليلة أولى رائعة أقضيها هنا في هذه القرية اللعينة … بحثت في الوحدة، حتى عثرت على عتلة حديدية تستخدم في رفع الفراش الطبي الوحيد بها، وهي تصلح أيضا كسلاح بائس، جلبتها إلى غرفة نومي، ووضعتها بجواري على الفراش الذي جلست فيه منتبها، متوجسا، منتظرا ما ستسفر عنه حفلة الذئاب المنعقدة في هذه اللحظة خارج نافذتي.
قبل ساعتين من الفجر، رحلت الذئاب واختفت أصواتها تماما، فكرت هل سيكون من الأفضل أن أنال الآن قسطا من النوم بعد كل تلك الأحداث؟ أم علي أن أظل متيقظا حتى الصباح، حتى أفهم بالضبط طبيعة الخطر الذي أنا مقدم عليه؟.. فجأة، قاطعت تلك الأفكار دقات قوية على باب الوحدة الصحية، فزعت من فراشي، وأسرعت نحو الباب وأنا أصيح بصوت مبحوح:
– من؟
تكررت الدقات بقوة، بدت كأنها دقات بيد بشرية، ملهوفة، لا تملك أي قدر من الصبر … كررت سؤالي دون أن أتلقى إجابة … وضعت أذني على الباب وأرهفت السمع، فلم يصل إليهما شيئا، جال بخاطري أن الطارق قد يكون مريضا وحالته خطرة، علم بوجود طبيب بالوحدة، ترددت كثيرا ولكن غلبتني ضوابطي المهنية ففتحت قفل الباب بمفتاحة الغليظ، وأدرت المزلاج، وفتحت الباب فتحه ضيقة، ونظرت منها وأنا أسأل:
– من هناك؟
لا يوجد أي شخص في الخارج، تشجعت أكثر وفتحت الباب كله، وألقيت النظر يمينا ويسارا بحثا عن الطارق … خطوت إلى الخارج عدة خطوات، ودرت حول الوحدة الصحية دون أن أنجح في العثور على هذا الطارق اللعين، عدت إلى داخل الوحدة واغلقت بابها … الآن يجب أن أنام ولو حتى لساعات قليلة، لو لم أفعل ذلك سينهار جسدي حتما، بعد عناء السفر ومغامرة امتطاء الحمير، وحفلة الذئاب … عزمت التوجه إلى غرفة نومي، ولكني انتبهت إلى أن باب غرفة الكشف مفتوحا، رغم أنني متأكد من أنه كان مغلقا طيلة الوقت … فجأة وصل إلى مسامعي صوت حركة خافت يصدر من داخل الغرفة … اقتربت بقدمين مرتعشتين من الغرفة، مددت رأسي، نظرت إلى داخلها وأنا اقول بصوت مرتعد، مختلج، يخرج من فمي الجاف من الرعب بصعوبة شديدة:
– هل من أحد هنا!؟

اقتربت من الغرفة بخطوات مرتعدة، متوجسة، مددت رأسي عبر الباب المفتوح لألقي نظرة إلى داخلها، فرأيته!.. رأيت ذلك الشبح الذي يجلس في ظلام الغرفة على الفراش الطبي، ويحدق في بعينين لا ترمشان … تحسست بأصابع مرتعشةالجدار بحثا عن مفتاح الإضاءة، أين هذا المفتاح اللعين عندما تحتاجه!؟. حسنا لقد عثرت عليه … ضغطت المفتاح بعصبية، فأضيئت الغرفة، ووجدت نفسي أصرخ في جزع:
– أنت … ماذا تفعلين هنا!؟
لم تجب علي تلك الشابة السمراء، ذات الثغر الرقيق والعينين العسليتين، الآسرتين، في عبائتها السوداء وغطاء رأسها الذي يحمل اللون، ولكنها مدت ساعدها الأيمن لتريني ذلك الجرح الدامي فيه، فقلت بعصبية وأنا اقترب منها، بعد أن تبينت طبيعة هذا الجرح:
– هل هذه عضة!؟
أومأت برأسها، فسألتها مجددا:
– هل كان ذئبا !؟
أجابت للمرة الأولى في هذه الليلة بصوت خرج رقيقا، عذبا، يحمل لكنة ريفية محببة:
– أجل، هل يمكنك مساعدتي يا (دكتور)!؟
كانت آثار الأنياب واضحة وجروحها غائرة، دامية، ويبدو أن هناك قطعة من اللحم صغيرة قد التقمها الذئب بالفعل من هذا الساعد الرقيق … نظرت للفتاة بدهشة، وأنا أقول متسائلا:
– هل تشعرين بالألم؟
– لا… لا أشعر بشئ.
تلفت حولي بجزع، المكان غير مجهز، ولا يوجد أدوات ولا عقاقير مناسبة للتعامل مع هذا الوضع، قلت محاولا بث الطمأنينة في تلك الشابة الحسناء:
– ارتاحي على الفراش قليلا، وأنا سأجلب بعض الأدوات الطبية من غرفتي.
لحسن الحظ كنت أحمل حقيبة طبية بها بعض المباضع، والخيوط، والأبر الطبية، ومجموعة كبيرة من الأدوية والأمصال الضرورية … عدت بسرعة إلى تلك الشابة، الحسناء، فلمحت نظرات الجزع والألم على وجهها، وبادرتني قائلة:
– الآن أشعر بألم شديد.
أعطيتها بعض الأدوية المسكنة من تلك المتاحة لدي، وبدأت أخيط جرحها، لست جراحا بارعا ولكنني استطيع القيام بالمهمة … لم تكن الأدوية المسكنة كافية، وكانت الفتاة تتألم، ولكنها كانت تكتم ذلك الألم بشجاعة وهي تعض على ضروسها، ولكن الألم والأرهاق كانا باديين على عينيها المذعورتين، وقطرات العرق البارد التي بدأت تغزو وجهها، انتهيت من مهمتي وغطيت الجرح بالشاش وأحكمته، وأعطيتها قدرا آخر من الداوء المسكن، ومضاد حيويا وميكروبيا، وطلبت منها أن ترتاح قليلا، فسألتني بصوت قلق سؤالا عجيبا:
– هل سيزول الأثر من جسدي أم سيبقى؟
لم أفهم ما تقصده، ولكنني أجبتها:
– ليس لدي هنا مصل (الكلب)، سيكون عليك بأي حال أن تمري علي غدا لأتابع حالتك وحالة الجرح، ونرى ما يمكن فعله.
قبل أن ابتسم في وجهها مشفقا، وأنا أقول بلهجة متعاطفة:
– حاولي أن تحصلي على قسطا من الراحة،الآن.
تركتها لترتاح على الفراش في غرفة الكشف، وتمكنت أنا من النوم في غرفتي بضعة ساعات أخيرا في تلك الليلة المرعبة، المشحونة، وعندما استيقظت وبحثت عنها وجدتها قد غادرت المكان، غادرت دون حتى أن تخبرني باسمها!
***
في الصباح حسبت أن الجبل أطبق على القرية، أو أن هناك زلزلال قوي يوشك أن يسوي الأرض بها، قبل أن اكتشف أن هذا هو (العم شقص) العملاق الكتوم يطرق باب الوحدة الصحية بكفه الضخم، بعد أن جاء ليصحبني لمقابلة عمدة القرية كما اتفقنا بالأمس … كان عمدة القرية رجلا قصيرا، سمينا، له هيبة، وتأثير، تراهما في ملامحه، وفي عيون الآخرين … رحب بي العمدة ترحيبا حارا، شعرت أنه مبالغا فيه، ثم سألني عن يومي الأول، وضحك كثيرا عندما أخبرته عن ليلتي مع الذئاب، وهو يقول ببساطة:
– ستعتاد هذا الوضع … لا تقلق.

من قصص حكايا العالم  الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق