مقالات

أعدوا طريق العودة بقلم حنان باكير

الموت لا يشبه شيئا الا الموت. فرادة لا يخربشها الا الموت الفلسطيني، الذي يحمل دلالات عشق قاتل لم تستطع السنون السبعون من التيه، إخماد جذوته.. كثر يجعلون لموتهم معنى خاصا، وإن بغير إرادة منهم. المناضل عبد الرؤوف أبو خريبة. ولد في ترشيحا قبل سقوطها بأربع سنوات. وجد نفسه في مخيم برج البراجنة. وتحديدا في “جورة التراشحا”. ففي هذا المخيم، أعاد اللاجئون بناء قراهم. حي الكابري، حيث تجمع اهل الكابري. وحي اهل شعب، وحي كويكات والصفصاف، وجورة التراشحا، سميت كذلك ربما لوقوعها في أرض منخفضة. فانتقلت القرى كما هي، وان استبدلت الحاكورة والبيارة، بخيام لا تقي بردا ولا ترد حرا. هنا نشأ الطفل عبد الرؤوف. فخبر ذل اللجوء والتيه، وكرت الإعاشة، ومطعم الأونروا. وكغيره أيضا تابع تحصيله العلمي. وحين نادته الثورة، لم يتقاعس. فغيّر المخيم اسمه وسيرته، صار يسمى معسكر برج البراجنة. وصار موئل الثوار وأحرار العالم. عرفت المناضل، يوم درسنا التوجيهي المصرية في لبنان.. وعرفناه مرحا كثير الضحك، بغير ابتذال، ومحبا للحياة ولفلسطين. تقديم الامتحان كان في الاردن. ترافقنا في السفر مع صديقة لبنانية. في الطريق بين دمشق وعمان، ولأول مرة رأينا سيارة جيب مفتوح، وبداخله بعض الفدائيين، بملابسهم المرقطة! صرخنا ثلاثتنا للسائق فدائيين فدائيين إلحق الجيب! أجابنا “ما بقدر وصية ابوك أدير بالي عليكن”.. بدأنا بالصراخ “عاصفة في كل دار”.. والتلويح بأيدينا. أستطيع الآن استحضار مشاعرنا الهستيرية.. لا أعتقد ان ظهور قديس، أو رؤية ليلة القدر، كانا أكثر إثارة من رؤية الفدائي الفلسطيني! أزعم أني الآن استعدت لدقائق تلك النشوة، لكن تلتها دمعة كبيرة. لم أخرج عن موضوعي، فقد نجحنا، وزرته وصديقتنا اللبنانية. نسيت ملامح زوجته، لكني لم أنس حسن استقبالها وحفاوتها بنا. انخرط صديقنا في العمل الوطني وتفرغ له. لم نسمع عنه الا صدق وطهارة وطنيته. ناضل في صفوف الثورة سنوات طويلة، صمد في المخيم، مشاركا شعبه، عذابات الحصار والجوع، والدفاع. تناقلته مناف عديدة، قبل أن يحط رحاله في الدنمارك. وبعد عدة عقود، التقينا عبر الفيسبوك. استعدنا ذكريات لبنان والحرب والحصارات والاجتياح… ذات مرة قال لي: لم يعد لي من مطلب في هذه الدنيا، الا أن ارى اولادي واحفادي في سلام ووئام. وأن أزور فلسطين! ربما نلتقي هناك. في آخر مكالمة بيننا، قال: إنه قرر السفر الى ترشيحا. وسألني عن موعد زيارتي، أجبته: لا أحب كلمة زيارة. أفضل أن اقول عودة، حتى لو كانت مؤقتة، لكنها ستمهد للعودة التامة. علق: “يا ريت”. عاد عبد الرؤوف الى الوطن. هل شعر بعودته الأبدية؟ كتب صديقه عامر عكاشة، أنه رأى المناضل في ترشيحا، سأله: شو مبين هون؟ أجابه مبتسما: جاي أموت في ترشيحا! وصدق وعده. بعد ساعات من تلك المحادثة، غفا على أمل أن لا يجبر على الرحيل ثانية من دفء الوطن، الى صقيع المنافي. فانتقم من رحيله الاول. وعد قريبته في الدنمارك، بسلة تين ترشحاني. فلا السلة وصلت، ولا هو عاد.. نام في فيء زيتونة من ترشيحا، وفردت زهور الجليل نفسها تغطيه بحنان، وياسمينة من الوطن نبتت فوق رأسه. في مسيرة وداعه سار الشيوخ والقساوسة والدروز.. تلك هي عظمة شعبنا.. ولن نسمح بتشويهها. لم يعرف أحد من قبل، كيف يلتقي الحزن والفرح في مأتم واحد.. والرحيل النهائيّ يكون العودة / الحلم.. إنه الموت الفلسطيني! الحق الحق أقول لك: عشت غريبا تطردك وتطاردك الأماكن.. لكنك عدت رغم أنف القدر!

مقالات ذات صلة

إغلاق