مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية #التّفاح_الحباري الجزء الخامس

كان سليمان ينظر إلى قمر، وهو يتساءل من تكون ،فهي جميلة جدّا، ثمّ قال: لم يجيئوا إلا ليخلصوا من مماليكك يا مولاي، والكل يعرف شدّة مراسهم، لهذا سيقتلهم أخوك غدرا ،ويستريح منهم. ونحن ممتنّون لهذه الجارية، وسأعلم رفاقي ليأتوا ويشكروها على شجاعتها . بعد قليل اصطفّ مائة من المماليك، وأحنوا لها رؤوسهم ،وقالوا: سنحارب من أجل مولاي وجاريته ،حتى آخر قطرة من دمائنا ،أضاءوا المشاعل، ولبسوا دروع الحديد، وخرجوا إلى الحديقة ،وطاردوا رجال المنصور بين الأشجار ،وكان الليل مضطربا تمزّقه الصّرخات ،وما إن أتى الصّباح حتى قتلوهم عن آخرهم ،كان إنتصارا عظيما لجمال الدين وقمر ،وهتفوا بإسميهما ،وقد أعجبهم الحبّ الذي بينهما ،صعدت قمر في الشّرفة وأنشدت :

مرحـى لأسـود البيـداء
خرجــوا لكميــن العـدوّ
في ليلة ساكنة دهماء
كـرّ و فـرّ فـي الهيــجـاء
..
تجالدوا بالسّيف ردحـا
صبـــروا لحـــرّ الدّمــــاء
أثخــنـوا فيــهم الجـــراح
و أبـلوا أحـســن البــلاء

طعنوهم في نحـرهم
طعـنـة ماحقــة نـجـلاء
فتـبّـا لهـم وللمنـصـور
من نعــاج رثّــة جربـــاء !!!

طرب الحرس لهذا الشّعر، وتعجّبوا من فصاحة تلك الجارية، وقرعوا طبول الفرح ،ثم أخذ كلّ واحد مكانه كأنّ شيئا لم يحصل. بعد ساعات حلّ موكب المنصور، ودخل القصر، فوجد الأمراء والقادة في انتظاره ،فأحس بالبهجة ،وقال: هلمّوا إلى الحديقة ،فلقد أحضرت الجواري الخمر ،وصنوف الأطعمة ،والحرس أيضا مدعوّون للوليمة .
فتحت الأبواب ،ونزل القوم إلى الحديقة ،فوجد المنصور رجاله متناثرين في كل ركن ،فإنزعج، وهمّ بالانصراف، لكنّه لمّا استدار وجد جمال الدّين ورائه ،فخاف ،وتراجع حتى كاد يسقط أرضا ،وقال : لقد رأيت البارحة رأسك في سلة ،فهل أنت حقيقة أم وهم ؟ أجابه : بل حقيقة ،والآن ستدفع ثمن جرائمك ،فأبي لم يحسن تأديبك ،ثمّ جرّه الحرس إلى الشرفة ،ورموا به فسقط ،وتحطّمت عظامه، ووضع السّلطان يده على كلّ ما في موكبه من أموال، وجواري، وعبيد ،والتفت إلى قمر، وقال لها : كل هذا سيكون مهرك ،وسأزيدك عليه !!!
ولمّا رأى الأمراء والقادة ما كان يدّبره لهم المنصور،أحسّوا بالخجل من السّلطان ،والتمسوا الصّفح منه، فقال لهم : من يرضى بخائن في صفوفه ،وبمن يباع و يشترى ؟ لقد كان أخى صائبا لمّا فكّر في عقابكم، لكن أنا أسامحكم ،ولا أريد أن أبدأ عهدي بدمائكم ، أترككم تعودون إلى بيوتكم ،وستفقدون مناصبكم، لكن ستعيشون .في الغد سمعت كلّ المملكة بما حصل، وعظم السّلطان الشّاب في أعينهم، وانتشرت قصته مع قمر في كلّ مكان، وامتدت إلى الممالك المجاورة ،وأرسل السّلاطين الوفود بالهدايا لقمر بعد ما بلغهم عن شجاعتها وحسنها .
بعد أيّام خرج المنادي ينادي في الأسواق : يا ناس .. يا أهل المدينة ،الأسبوع المقبل زواج الأميرة قمر والسّلطان جمال الدين .. ليعلم الحاضر الغائب !!! ففرح النّاس، وبدأوا في تزيين الشّوارع ،وتنظيف المدن والقرى ،وكلّ الناس شعرت بالسّعادة ما عدى إمرأة واحدة إسمها سميّة ،وهي الزّوجة الأولى للسّلطان . لمّا رأت جمال قمر ،وحبّ الرعية لها، أحسّت بالحقد عليها ،فلقد كانت تحبّ جمال الدّين، ولا تقبل أن تشاركها فيه إمرأة أخرى ،وبدأت تدبّر للإنتقام منها …

تنكّرت سميّة ،وذهبت إلى ساحرة عجوز تعرفها منذ طفولتها،وحكت لها قصّتها ،فضحكت ،وقالت لها: إذا وضعت ثمنا مناسبا فسأخلّصك من ضرّتك الحسناء ،وإمكانك التشفّي فيها كل يوم !!! سألتها :هيّا أخبريني عن ماذا تنوين عمله ؟ هذا ما أريده بالضبط ،وماذا ينفعني موتها ؟ فأنا لست مجرمة ،يكفيني أن تتعذب كما فعلت بي، وأطارت النّوم من جفوني .ثمّ رمت لها صّرة فيها ألف دينار ، فظهر السّرور والجشع على وجه العجوز ،وقالت : سأحظر لك غدا سحرا، دسّيه في طعامها ،وإذا أكلته فستصبح حمامة ،هل يرضيك هذا ؟
أجابت سميّة :هذا جيّد ،ستراني مع السّلطان ،وتموت كمدا ،أنت حقّا رائعة ،سآتيك كلّما إحتجت شيئا .في الغد أرسلت المرأة جارية لإحضار السّحر وأوصتها بوضعه في عصير العنب لكي لا تحسّ بمذاقه ،إنتظرت الجارية حتّى نزلت قمر إلى الحديقة وقدّمته لها مع الحلوى ،سألتها في العادة جاريتي ياسمينة هي التي تقدم طعامي ،ردّت عليها إنها مريضة وأوصتني أن أعوّضها اليوم،لم تنتبه الفتاة أنّ الجارية تراقبها من بعيد ،ولمّا شربت جرعة من القدح أحسّت بدوار شديد ،وسقطت على الأرض فإقتربت منها وألقتهاا تحت شجرة ،وبعد دقائق لاحت على الجارية إبتسامة صغيرة، فلقد تحولت قمر إلى حمامة بيضاء ،وقالت في نفسها يا له من سحر غريب، لا يحتاج مفعوله سوى لزمن قليل .
عندما إستيقظت الفتاة وجدت جناحين مكان يديها ،والريش يكسو جسمها ،إعتقدت أنّها تحلم ،لكن لمّا نظرت لنفسها على ماء البحيرة الصافي إكتشفت أنها أصبحت حمامة ،صرخت وبكت ،لكن لم يهتمّ بها أحد، فالحديقة مليئة بالحمام وأصناف الطيور. أرادت أن ترى زوجها السّلطان ،فطارت ،ووقفت على نافذته ،كان يجلس حزينا ،عرفت أنّه يبحث عنها ،فبكت دموعا حارّة ،وتساءلت كيف ستناديه؟ فلقد أصبح لها صوت الحمام !!!
قالت في نفسها :سأنتقم أولا من سميةّ ،ثم أفكر في حلّ دخلت من نافذة المطبخ ،وأكلت حتى شبعت، ثم إختفت في باب القصر تنتظر غريمتها ،التي كانت تستحم وتصفف شعرها،ولما خرجت للحديقة لتروح عن نفسها إقتربت منها الحمامة ،وأفرغت جوفها على رأس المرأة ،ثم هربت ،ووقفت على شجرة عالية ،صرخت سميّة :الويل لك يا قذرة ،ثمّ أمسكت عودا، وقالت :لو أمسكت بك لأدخلت هذا العود في مؤخّرتك !!!
ضحك العبيد والجواري ،فغضبت ،وقالت لهم ويحكم !!! أعدّوا لي حمّاما فلقد أصبحت رائحتي مثل قنّ الدّجاج ،هيا أسرعوا أيها الحمقى ،ضحكت قمر : وقالت : سأجعل أيامك لا تطاق وسأجعلك تدفعين الثمن ،ذهبت سميّة في المساء إلى قيّم القصر، وطلبت منه التخلص من كلّ الحمام في الحديقة لكن قمر سمعتهاخ ،وأخبرت أصدقاءها، وصاروا يختفون عندما يرون الصّيادين ،ولمّا علموا قصتها نصحوها أن لا تترك زوجها لضرّتها ..
أصبحت تذهب كلّ صباح ، وتجلس على النافذة تنظر إليه بعينيها الصغيرتين ،وتعوّد عليها السلطان شيئا فشيئا ،ولما أراد الخدم طردها منعهم، وذات يوم فتح النافذة ،وأدخلها ،ورأى أنها سعيدة جدا ،فكانت تقبّل وجهه وشفتيه بمنقارها،وتجلس في حجره ،وتستمتع بيده الحنونة تمسح على رأسيها ،أصبح يناجيها ويشتكي لها غياب حبيبته ،وهو لا يعرف أين هي ،مرّة دخلت سميّة ووجدتها على فراشها ،فصاحت ماذا يفعل هذا الحيوان في غرفتي ،هيّا أخرجه فورا ،تعجّب زوجها من ثورتها، وقال إنها فقط حمامة لطيفة ،وأنا أرتاح لمّا أراها !!!
قالت له : وأنا ألا أكفيك ؟ لا أستغرب أن تصادق الحمير والكلاب ،فبعد إختفاء تلك الجارية أصبح وضعك سيّئا يا مولاي ،أحسّ السّلطان بدموعه تنزل على خدّه فسميّة على حقّ،لقد فقد لذّة العيش بعد حبيبته قمر، حمل الحمامة في يديه ،وذهب إلى الكوخ في الحديقة ،فتذكّر أيّام السّعادة ،وأنشد :

لقد طال الغياب
أخبريني أنّك بخير
كلّ يوم أنتظرك
لمّا يتبدّد الضّباب
على حافّة الطريق
وعند الأبواب

لمّا أكمل شعره ،نظر إلى عيني الحمامة فوجد فيهما دمعتين كبيرتين ،فمسحهما ،وقال :هل تفهمين ما أقوله يا جميلة ؟ فحرّكت رأسها الصغير بالإيجاب،إبتهج كثيرا ،وقال نظرتك تذكّرني بحبيبتي، هل تعرفينها ،حركّت مرّة أخرى رأسها ،وبدأت ترفرف حوله بحبّ ،ثم نزلت على المائدة ،كان عليها بعض الغبار فمنذ مدّة لم يأت أحد للكوخ، فرسمت بمنقارها شيئا ،ولمّا رآه صاح من الدّهشة :لا يمكن.. غير معقول !!! هل هذا أنت ؟ ومن فعل بك هذا ؟ لا شك أنها سميّة ،هي شديدة الخبث .
أمضى السلطان ليلته في الكوخ مع الحمامة ،منذ أيام طويلة لم يحسّ بالسّعادة ،لكنّه كان يفكّر كيف ستستعيد شكلها، لا شيئ مأكّد كلما تعلق الأمر بالسّحر. في الصّباح طلب رؤية حكيم الزمان، وحكى له قصته ،قطّب الشيخ جبينه ،وقال :هذا سحر جماعة الثعبان الأسود، وهؤلاء القوم لم يعدوا موجودين على حد علمي ، وهم بارعون في السحر والطب لكن من المؤكد أن ساحرا واحدا على الأقل قد نجا من المحرقة التي قام بها سلاطين مملكة جبل الشمس،ومن الغريب أنّ الأميرة سميّة من تلك البلاد، أجاب السلطان شكوكك في محلّها،و من اليوم سأراقبها خفية فهي من ستقودنا إلى الساحر ،والويل له لمّا أقبض عليه …

يتبع

من قصص حكايا العالم الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق