مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية #ينتهي_مال_الجدّين_وتبقى_صنعة_اليدين الجزء الاول
يحكى في قديم الزّمان وسالف العصر والأوان على سلطان يعيش في مملكة بعيدة وكان له ولد وحيد ،بالغ في تدليله ،وكلّما يطلبه يناله ،ولمّا كبر قليلا أتاه بالشيوخ لتحفيظه القرآن ،والحكماء لتأديبه بآداب الملوك ،والشعر والتاريخ ،وكان يحمله معه في الصّيد ،وفي حروبه فتعلّم الرّمي بالقوس والضّرب بالسّيوف وركوب الخيل حتى صار فارسا لا يضاهيه أحد في شجاعته ، وتعلّم من الحكماء حتى لم يعد لديهم ما يقدمونه له ، لكن كلّ ذلك لم يكن يرضي السّلطان، وذات يوم كان جالسا مع وزيره ،فقال له : مازال ينقص ولدي شيئ ،ولن يرتاح بالي قبل أن يتعلّمه ،تعجّب الوزير ،وسأله : وما هذا الشّيئ يا مولاي ؟ أجابه: لا بدّ أن يتعلم صنعة !!! صائغي أو نجّار ،أو نسّاج ،هو يختار ما يريد !!!
تفاجأ الوزير بالأمر ،وسأله :وماذا يفعل بها ؟ هذه صنائع العامّة ،أمّا صنعة الأمراء هي التدبير !!! وخزائن مولاي عامرة ،وخيره من الضّياع ،والخيل، والإبل وفير،يأخذ منه ولده ما يشاء .حكّ السّلطان ذقنه ،وقال :لا أحد يأمن الدّنيا فكم من الملوك دار عليهم الزّمن ،وأصبحوا فقراء بعد عزّهم!!! لا يعجبك في الدّهر طوله، فلا يدوم إلا وجه الله ،والمال قد ينتهي ،لكن الصّنعة تبقى. لم يجد الوزير ما يقوله ،فقد كان كلام السّلطان حكيما ،قال له :غدا سأرافقه إلى السّوق ليختار ما يعجبه ،وفي الصباح تنكّرا ،وطلعا إلى الأزقّة التي بها دكاكين الحرفييّن وصارا يدخلان زقاقا ويخرجون من آخر ،وهما يتفّرجان على الحدّادين والنّجارين والطباخين ،وعلى عكس ما إعتقد الوزير ،كان الأمير مستمتعا بما يراه ،ويقف كل مرّة ،ويسأل أصحاب الصّنائع عن شغلهم .
دارا في كل مكان حتى وقفا أمام دكان صائغي، وكانت بجانبه إبنته تنقش طبقا من الذّهب ، نظر إليها واعجبه جمالها ،فقد كانت عيناها كبيرتين وشعرها الأسود ينزل ضفائر طويلة على صدرها ، إبتسمت له البنت، فقال للوزير :سأتعلم الصّياغة ،وهذا الرّجل سيكون معلمي !!!أزال الوزير العباءة التي عليه ،ولما رآه الصّائغي ،وقف إحتراما له ،وسلم عليه، وأمر إبنته رباب أن تعد القهوة للضّيوف ،قال له الوزير : مولاي يريدك أن تعلّم إبنه جمال الدين صنعتك حتى يتقنها ،وسيكافئك عن طاعتك .قال الصّائغي: لا أريد مقابلا، ويكفيني رضا مولاي عنّي .رجع الوزير إلى السّلطان فأخبره بما حصل ،ففرح ،وقال لا بد من إكرام ذلك الرّجل ،وأمر له بعربة من قصره هدية له يركبها إلى دكّانه .
صار الأمير يقوم باكرا كل صباح ،ويذهب إلى دكّان الصّائغ ويجلس جنب رباب ،،وكلّما تلتقي العيون كانا يضحكان ،ولاحظ الشّيخ فرحة ابنته ،وهو لم يراها كذلك منذ موت أمّها .كان مجيئ الفتى إلى الدّكان فاتحة خير ،فبدأ الزّبائن من الأعيان يأتون بحلّيهم وآنية الذّهب لينقش جمال الدّين عليها الأشعار التي يألّفها ،وكانت رائعة ،ولم تمض سوى مدّة قصيرة حتى صار أشهر صانعي الذهب في بلاد المغرب، وصارت العامّة تنشد أشعاره في الأسواق دون أن تعرف أنّه ابن السّلطان .
في يوم من الأيام أرسله أبوه مع الوزير لأحد الممالك المجاورة ليحمل لسلطانها هدية ،ولمّا رجع الموكب شاهد الأمير من بعيد فارسا جريحا يجري نحوه وقال له : لقد ثار إسماعيل قائد الجيش على أبيك السّلطان وقتله ،وهو يبحث عنك في كلّ مكان ،قال للوزير، ومن معه: ارجعوا إلى المدينة، وتفرّقوا لكي لا يعلم أحد بأمركم ،وأنا سأجد حلا وأرجع لكم !!! ذهب إلى أصدقاء والده من الملوك لكن لم يقبل أحد بمساعدته لخوفهم من السّلطان الجديد الذي كان من الجبابرة ،وحاول بعضهم القبض عليه وتسليمه له ،لكنه هرب ،وهام على وجهه في البراري ،حتى وصل إلى شاطئ البحر ،فرأى مركبا يستعدّ للإبحار فطلب أن يركب معهم ويخدمهم .
أشفق أحد التجار عليه لصغر سنّه ،فأخذه معه ليساعده في رحلته ،ولمّا وصل، وجد نفسه في الإسكندرية، وليس في جيبه سوى دراهم قلية ،خرج للسّوق ،وبدأ يدور إلى أن وجد نفسه أمام دكّان صائغي ففكّر أن يدخل ويطلب العمل عنده ،رآه صاحب المحلّ فخرج ،وسأله :ما بك يا ولدي كأنّك غريب وتبحث عن شيئ ؟ أجابه أنّه يبحث عن عمل ومأوى ،ويكتفي بما يسدّ رمقه !!! سأله هل لك معرفة بالصّياغة ؟ ردّ عليه : نعم ،فلقد تعلمتها في بلاد المغرب ،ولمّا جرّبه دهش من دقّة صنعته .
كان ذلك الرّجل يهوديا بخيلا إسمه عمران ،فحمله إلى داره وأعطاه غرفة في الدّهليز ،وصار ينزل له كل يوم طعاما دون لحم :فقط أرز وخضروات ،ويعطيه بقيّة ملابس أبنائه ،وكل شهر يرمي له دينارا ،صبر الفتى ،وكل يوم لمّا يتمدّد على فراشه يتذكّر رباب ،وضحكتها الجميلة ،فيبكي وتسيل دموعه حارّة ،ويقول ترى أين أنت ؟ وكيف حال مملكتي التي صارت خرابا بعد أن نهبها التلمساني قائد جيش أبي السّلطان محمّد بن النّاصر ،ثم يمسح دموعه ،ويصيح :لا تفرح يا لعين، فالدنيا دوّارة يوم لك ،ويوم عليك ..
حكايا العالم الاخر
…
يتبع الحلقة 2