كنت في المترو يوم أمس أطارد الوقت لأصل إلى عملي الثاني بعد أن فرغت من ثلاث ساعاتٍ أشرح فيها عائلة النواسخ الفعلية والنواسخ الحرفيّة وأفعال المقاربة والشروع والفرق الإعرابي والدلالي بينها . اعتاد روتيني أن أشتري قطعة بيتزا صغيرة من مخبز قريب من مكان العمل وقريب من حفرة المترو التي تلتهمني مدّة تزيد عن نصف ساعة بينما ألتهم على عجل قطعة البيتزا التي تصبّر معدتي المعتلّة كأنها رابع حروف العلّة بلا ترياق مقرون أو مفروقٍ
انتبهت وأنا آكل كما يأكل الشيب شعر رأسي أنّ سيّدة تناظرني في الجلوس تنظر إليّ بلا توقف. سيّدة تشارف على توديع الأربعين يبدو عليها تعب الحياة وتبدو ملامحها عربيّة .
خجلت من اللقمة بين يديّ فعادني طابع الضيافة العربيّ في المترو الفرنسيّ ومددتها بقطعةٍ من قطعتي مبرّرة أني بين عملين مضطرة إلى الأكل في اللامكان على حدّ توصيف ميشال فوكو. ابتسمت وسألتني إن كنت جزائرية فصوّبت ثم رفعت كلفة الخجل عنّي وقالت إنها شابّة كانت مثلي تأكل في المحطّات بين عملين بل أثنت على روح العمل لديّ مقارنة بابنها الكسول في البيت. لفتني أنّها لا تسند جملة إليّ دون أن تشفعها بعبارة “ابنتي” وأعترف أنّ هذا الدّال اللغوي أثّر في نفسيتي المنهكة فرفعت من حيث لا تعرف معنوياتي أو لنقل بعثت بعض الدفء في مسامي وفي المترو البارد. ولفتني أنّها دُهشت حين سألتني عن سنّي إذ ظنّت أنه عشرينيٌّ. وحين عرفت العمر والعمل والدراسة وأنني وافدة لم أجد ملعقة العسل تنتظرني على رأيها قالت لي الجملة التي صنعت يومي” أنا فخورة بكِ” وأضافت بلهجة أمّ المليون شهيد”نستعرف بيك!”
أمّا الطريف في المقامة هذه، أنّها ربطت بين ملامحي العشرينية بالنسبة إليها وبين ما استطعت النجاح فيه إذ لا يوحي بسنّي الحقيقي -كأنّ كلّ مشاكلي عمري!- واعتبرت أن سعيد الحظّ محظوظ لأني أبدو أصغر دائما. أضحكني جدّا تعليقها وملامحها البريئة ونظراتها الصادقة. هل تعرفني قبل ذلك لتدعو لي كأنّني ابنتها من بطنها؟ وهل تعرفني قبل ذلك لتفخرَ بي علنا أمام الركّاب بالعربيّة التي كنت للتوّ أفكّ طلاسمها لطلاّب اختاروها لتضمّد وجع اغترابهم؟
يضع الله أمامنا من يجبر الخواطر . وهو ليس هيّنا وعند الله وعبده عظيم!
تقاسمت معها قطعة البيتزا وبعضا من شجون الغربةِ فصار بيننا “عيش وملح”. وعندما نزلت ظلّت تودّعني بالقبل من وراء الزجاج كأنها أمّ تودّع ابنا لها مسافرٌ
شكرا لكِ سيّدةً لا أعرف اسمها لكنّي لن أنسى ملامحها وجملتها
وشكرا للصدف السعيدة التي تعيد بعض الاعتبار
كانت الناسخ الفعليّ الذي رفعني اسما وقامةً