مقالات
مفرط في توجعه ..رياض الصلح
بتشوق كبير، و حرص شديد، و محاولات متكررة .. كنت أريد إثارة فضول ذلك القط العجوز الأعرج .. و الذي لا يزال يثير فضولي المراهق و انتباهي الدقيق الذي يميزني عن باقي القطط الفتية السخيفة..
لا أدري لماذا تشدني حبائل الأفكار و تسحرني غرائب الأشكال و تعصر ذهني دقائق الطبائع ..
لماذا لا يثيرني ما يثير أقراني من الجميلات الملفتات أو البحث عن الملهيات أو حتى ذلك التسول الرقيق الذي نمارسه على بني البشر بعيوننا الرقراقة و حنوِّنا المصطنع من أجل تحصيل بعض فتات موائدهم ..
لطالما كنت مادة فكاهة يتداولها بنو جنسي خلال جلساتهم المملة الفارغة أمام أبواب البيوت البشرية أو تحت ظلال أشجار الأرصفة المهملة .. يجلسون بالساعات الطويلة و كأن حياتنا القصيرة وجدت لاختبار إمكانيتنا في النوم أو صبرنا في مجالدة الملل ..
لقد كان لقائي معه اليوم مثيراً.. لم أعرف أن عجائز القطط تتلفظ بمواء ينم عن الحكمة.. أو إيماءات و ملامح تدل على تمكنها من قوة الإدراك و قدرتها على تصدير الخبرات ..
بنظرة خاطفة.. يظهر أمامك قط عجوز ذو وجه مستدير متجهم .. ذو جسد ممتليء .. و فرو كثيف جميل ملفت .. لا يظهر عليه أثر الإجهاد أو التعب .. تظن أنه أقرب ليكون قطاً من فئة القطط التي تسكن بيوت البشر .. و تحظى بالدلال المفرط .. غير المتناسب مع العمر أو النوع و لا حتى مع الرغبة .. لكنها تتقن فن التظاهر بالرضى من أجل المحافظة على مكاسب الانتماء للبيوت البشرية من مأكل أو مأوى أو رعاية .. تباً لنفاق القطط .. لكنه الواقع ..
لم يكن قطاً منزلياً .. أخبرني بذلك عندما سألته .. أظن أن سؤالاً سيدور ببالك عن مدى قوتي في تخطي حدود هيبة ذلك العجوز .. و جرأتي الغريبة لتمكني من فتح حوار مع قط مديم الصمت .. غارق في غثيان الخيال .. لا تستغرب .. فقد ذكرت لك أنه قط أعرج .. و من سيبالي بقط من ذوي الاحتياجات الخاصة .. و كلنا يعلم أنها تكسر الهيبة و تحطم مشاعر الاحترام إن وجدت .. و تثير مشاعر الشفقة المتخفية بالتشجيع و التصبر من ناحية .. و من ناحية أخرى تولد مشاعر الاحتقار الخفية .. و الاستخفاف غير المعلن .. إلا في حدود عقولنا القططية ..
كانت بداية الحديث معه استفهاماً عن سبب العطب في يده اليمنى .. ثم استغراباً من معرفتي بأنه يحمل داخلها شيئاً حاداً لا يعرف ماهيته و قد داس عليه قبل خمس سنين .. ثم اعتراضاً لما علمت منه أنه لا يقترب من بني آدم مع عرضهم المتكرر للإمساك به من أجل العلاج .. و هنا كانت المفاجأة ..
لقد حدثني بما لم أعرفه قبل ذلك .. سألني إذا كنت أعرف معنى كلمة مزمن .. أو ما يعنيه الألم المزمن .. تركته يتحدث .. أحسست وقتها أنه لم يكن يتحدث إلي .. فقد كانت عيناه ترمقان أفقاً بعيداً .. و كأنه يحادث روحاً سابحةً في سراب ذلك الأفق .. كان وجودي بالنسبة إليه مجرد صوت تردد أمامه ليستحضر صدىً عنيفاً منبعثاً من أعماق جوفه المعتمة ..
لن تفهم يا بني ما سأقوله لك .. لكنك ستعرف لاحقاً قصدي .. فكل القطط ستعاني ذات يوم من ألم ما .. حتى لو استخدمت أرواحها السبعة كوسيلة حماية .. الألم يا صغير أيقونة الحياة .. و لحنها المحفز .. لم أعرف ذلك عند دوسي على ذلك الشيء .. كنت أظن نفسي المتألم الوحيد.. أواجه نكده و كبده وحدي.. لقد كنت أمقت نفسي و أسخط عليها ألف مرة على غبائها و انعدام حذرها و سذاجتها .. حاولت مراراً أن أتخلص من الألم بشتى الوسائل و استشرت مئات القطط .. لكنك تعرف محدودية معرفتنا و تواضع قدراتنا .. حتى علمت لاحقاً من كثرة شكواي و بكائياتي .. أن جميع من أسمعتهم كانوا يتألمون و يعانون بنفس القدر أو أكثر .. تعددت أسبابهم .. و أشكال أوجاعهم .. لكنها جميعاً تصب في بحر الشعور بالألم .. و عرفت أن الدواء لم يكن حسياً .. إنما كان محض تأقلم شعوري مفرط في تقبُّلِهِ للواقع ..
عزمت وقتئذ على مسامحة نفسي بدلاً من تأنيبها .. و التعايش مع عرجتي بدلاً من منازعتها .. و الالتحام مع الآلام بدلاً من إنكارها .. و ضمدت جرحي النازف بضمادات الأمل .. لقد صرت أفهم الحياة أكثر .. و أعرف عنها ما تجهلونه أيها الصغار ..
صارت راحتي في التعب .. و تلذذي في المعاناة .. و صبابتي في تحمل المشاق و إدراك الغايات بصعوبة بالغة .. لقد تطبعت بصفات المتألمين .. و اكتسيت بملامحهم .. لم تكن شنيعة كما كنت أعتقد .. لقد أكسبتني هيبة العظماء .. و طغت علي هالة الحكمة .. كل شيء بدأ من الداخل .. لكنه سرعان ما انتشر جماله في هيئتي الخارجية .. لقد صارحني بذلك الكثير من المحبين .. و تبينت صدقهم من كثرة الحاسدين المبغضين كذلك ..
عرفت يا بني خلال رحلتي مع الألم .. معنى المتضادات عندما تجتمع .. عرفت أن أرسم بسمة موجوعة على ثغري .. و كيف أسير بخيلاء رغم عرجتي .. و عرفت كيف أصرخ في صمت .. و أصغي رغم الصراخ .. و أبكي من غير دمع ..
لقد تعلمت كيف أتخطى عرجتي بالخيال .. فإذا به حصان و عقلي الجامح خيّال .. لقد ركضت في شاسع أرضه رغم عرجتي .. و سبحت في محيطه رغم انعدام معرفتي بالسباحة .. و كلما غرقت في أعماقه دبت في جوانح روحي أنفاس الحياة .. و عندما ينتابني النعاس .. أغفو على وسائده الوثيرة .. فيسرد لي أجمل القصص في الأحلام .. و بدون آلام ..
كانت عيناه تغالب نفسها على السهاد .. لكنه غفى خلال دقائق .. بعد أن أشار إليّ بالرحيل .. خفت وقتها على نفسي .. هل يقول حقاً أنني سأعاني من ألمٍ ما .. ينتابني الخوف و القلق .. و ها أنا ذا .. أسرد ما علمني بألم لم أستطع تجاوزه ..
# بقلم
# رياض الصالح