مقالات
أ. د. مناويل حساسيان سفير دولة فلسطين في المملكة الدنماركية
لا جدال حول الحضارة الغربية المادية في تركيبتها بأنها الرائدة, بغض النظر من الموقف المتناقض الإسلامي لها. هذه الحضارة الغربية تحمل في طياتها مكونات مادية تنقصها الروحانيات والأخلاق وجل اهتماها بناء قطب يتجلى بالهيمنة والسيطرة على الشعوب و مواردها الاقتصادية و الطبيعية و ترجمت هذه الحضارة بخلق نظام امبريالي مهيمن لا حدود للقيم و الأخلاقية سوى الهيمنة و السيطرة بكافة الوسائل. ولا احترام للأعراف الدولية والقانونية كل شيئ مستباح لها.
اليوم النظام العالمي الجديد هو نظام بربري بامتياز يتخطى كل الأعراف و المواثيق الإنسانية للوصول إلى الهدف المنشود ألا وهو السيطرة الكاملة على كل مقدرات الشعوب و إذلالها بقوانين فصل عنصري و النظرة الدونية لغير الأبيض الانجلوسكسوني. للأسف معظم دول أوروبا الغربية تابعة لهذه الامبريالية الأمريكية المتخطية لكل القيم الإنسانية و قمع كل الحركات التحررية و تسكيت أفواه العالم من انتقادها. للأسف الفجوة كبيرة بين الحكومات و الشعوب المناهضة لهذه الهيمنة و الغطرسة المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات و المنظومة العسكرية و وسائل الإعلام الموجهة و اللوبيات الصهيونية و غيرها. لا مجال للشك بأن الشعوب الحرة مدركة تماما لطبيعة هذا النظام و أهدافه و لكن تنقصه الجرأة للمواجهة بشكل مباشر و صريح لمنهاضته و لردعه من اجتثاث المقدرات الطبيعية و الاقتصادية و قمع الشعوب.
إن وحشية هذا النظام العنصري و البربري هو نتاج لإفلاس قيمه ومعتقداته و انحلال تام لمنظومة الأخلاق و القيم الإنسانية. لا حدود مرئية بالتعامل مع كل ثقافة و حضارة مناهضة لهيمنتها، إلا بالعصا. و في خضم هذه السياسات العنجهية، لا نزال نرى ركود الغرب بمجتمعاتها المستسلمة لقانون الغاب و غياب بريق الأمل في مناهضتها، و الصوت الآخر مقموع و الأقلام غائبة و النقد مبهم و الأفواه ملتجمة للأسف.
الجانب المهيمن للأنظمة الغربية ينفذ سياساتها القمعية دون حسيب أو رقيب و بالمقابل لانرى أي تحد فكرياً ولا عسكرياً لهذه المنظومة المهيمنة على شعوب العالم. و في ظل هذه التركيبة الدولية و بكل تعقيداتها و بكل امكانياتها الاقتصادية و السياسية و العسكرية، نرى ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني عن طريق الكومبرادور الصهيوني المدعوم بأحدث الآليات العسكرية و الدعم الاقتصادي و السياسي اللامحدود.
مخطئ أي انسان يعتقد بأن تل أبيب هي المهيمنة على القرار الأمريكي، بل على العكس وجدت إسرائيل بدعم من أوروبا و الآن بقيادة الولايات المتحدة و التي بدورها هي تستخدم إسرائيل كشرطة في منطقة الشرق الأوسط لتسيير مصالحها الأمنية و الاقتصادية و السياسية. إذن اليوم لا نحارب المحتل الصهيوني لوحده و لكن أقوى دول العالم قاطبة، بقيادة الولايات المتحدة.
يجب أن نتحلى بعقلانية إدارة هذا الصراع و أن لا نكون عاطفيين باستنتاج مبكر بالنصر، لأن النتائج المروعة ستحبطنا في مواجهتها. و لانريد الاستسلام لأن القوانين الطبيعية و البشرية في حالة تناقص محتدم و ذلك ضمن قواعد التطور و التغيير.
لا نستطيع أن نغفل حقيقة واضحة بأن هناك فجوة مفرغة بين الخطاب الفكري و السياسي العربي و الشعوب المتقدمة على أنظمتها السياسية.
وهنا السؤال المهم، أين يقظة العرب الذي تكلم عنها جورج أنطونيوس في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي و التي تحلت بنهضة فكرية و سياسية.
ونتيجة لانعدام هذه اليقظة بترجمة فعلية على أرض الواقع و وجود مجتمع مدني متشرذم غير قادر على إنتاج فكر كرافعة بالنهوض نحو مجتمعات أفضل في ظل هذه التحديات الجسيمة. و من سخريات القدر أن بلادنا العربية و الإسلامية غنية مادياً و مستهلكة و تابعة للإنتاج الغربي.
و إن استثمارات الدول العربية كلها في الغرب و ليس في الوطن العربي مما يؤدي إلى تبعيتها الاقتصادية ومن ثم السياسية و الفكرية، و بذلك تنقصها توظيف عائدات البترول في الإنتاج لها و لمصلحة شعوبها.
البوصلة مفقودة لعملية التنمية المستدامة و أنها تابعة للغز و هيمنتها بامتياز.
في ظل التطورات الموضوعية في هذا النظام العالمي الجديد نرى بوضوح الكيل بمعيارين للقضية الفلسطينية، بل هناك تأييد سافر و صارخ للاحتلال الإسرائيلي و قمعه لشعب أعزل جريمته هو حق تقرير المصير و العودة.
أصبح واضحاً بأن الحرب على غزة هو إنهاء القضية الفلسطينية برمتها و ليس ذريعة القضاء على حماس. الهدف هو ضم الضفة الغربية و اقتطاع شمال غزة كحدود عازلة للأمن الإسرائيلي. الحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو لا تعترف بحل الدولتين و لا تعترف باتفاقيات بأوسلو و م.ت.ف ، هدفها أصبح جلياً الضم و الترانسفير لإنهاء القضية الفلسطينية.
لا مجال للشك بعد هذه الجريمة النكراء بحق الشعب الفلسطيني نتوقع موقفاً أوروبياً مختلفاً و داعماً ليس إلى أبعد الحدود لمطالبات الفلسطينيين بوقف إطلاق النار الفوري و إحياء الاتفاقيات الدولية في إطار حل الدولتين .
التظاهرات في عواصم أوروبا هي الضاغطة على حكوماتها من أن تغير مواقفها و أن تتحمل المسؤولية لهذه الجرائم لإسرائيل من أي وقت مضى، و أصبحت نتيجة أي انتخابات مرهونة في قضية الدعم للشعب الفلسطيني لا محالة.
المطلوب من قيادتنا الاعتراف بالعقلانية و البرغماتية بالواقع الصعب و التمسك بالعروة الوثقى.
لا نريد الخوض هنا في سيناريوهات المستقبل ولا الانزلاق في تخمين المشهد السياسي ما يعد هذه الإبادة، فقط نكتفي بأن لا مناص لحل الدولتين اذا ارادت اميركا و المجتمع الدولي لإحلالها . الموقف الإسرائيلي واضح دولة واحدة ابرتهايد و تبعية تامة لنظامها العنصري.
ولكن لا يوجد حل الدولتين بوجود الثلاثي نتنياهو ،سبوترش، و بن غفير وهذه الحكومة المتطرفة والتي تؤمن بالضم والترانسفير.
المطلوب موقف واضح امريكي واوروبي في حل الدولتين ووضع خطة طريق لتنفيذها، و المطلوب أيضاً توافق فلسطيني شعبي و قيادي للقبول بحل الدولتين.
الأمور واضحة والظروف الموضوعية قد تغيرت و ميزان القوى العالمي أيضاً في طور التغيير لا محالة للرجوع إلى ما قبل 7 أوكتوبر. هذه حتمية تاريخية و يجب أن نتفاعل معها إلى أبعد الحدود.
نضال 75 سنة يجب أن يترجم إلى واقع الدولة الفلسطينية و عدم القبول بتجزئتها مهما كلف الأمر. صمود شعبنا و بطولاته كان العنوان الحاسم في تغيير الواقع الأليم.
وفي الختام نستطيع أن نخلص بأن المشهد الحضاري الغربي في ظل انهيار لمنظموته و لفكره و لقواعده الأخلاقية و التي باتت واضحة في اخفاقاتها لريادة العالم الحالي و أن لا بد لتغيير جدي و ديناميكي لحضارة تستوعب الجميع على أسس العدل التوزيعي والقيم الإنسانية و لمجتمعات ديمقراطية حرة ليست موجهة وقمعية . ليس المنتصر يكتب التاريخ و إنما الشعوب بثوراتها هي تسجل التاريخ و إنجازاته. هذه الرؤية المستقبلية لا محالة و المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي (Arnold Toynbe) قال: بأن الحضارات قابلة للانهيار و ان التاريخ حتميته واضحة في عملية التطور و تسوية التناقضات.
أصبح لا مجال للشك بأن لحتمية دولة فلسطينية و عاصمتها القدس الشريف أصبحت عملية و أكثر قبولاً من المجتمع الدولي للتحقيق و خصوصاً بعد دمار و تشريد و قتل الفلسطينيين العزل بغزة للأسف الشديد.
إن التضحيات جمة و مؤلمة و لكن هذا قدر الشعوب المنتفضة على الاحتلال الغاشم و لابد للقيد أن ينكسر قريباً بإذن الله تعالى.