يَبقى عالقا في الذاكرة ذاك الجرح الإعلامي البشع الذي ارتبط باعتداء إسرائيل على بلادنا في حمّام الشط، في مثل هذا اليوم من عام 1985… كنت أعمل للإذاعة التونسية وقتها، وكنّا داخل مبناها في شارع الحريّة قد علمنا من خلال برقية لوكالة فرنس بريس بعد الساعة العاشرة من صباح ذاك اليوم، وكان الثلاثاء، أنّ إسرائيل شنّت غارة على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمّام الشط. أخذتنا رَبكة وحُرقة في طابق أقسام الأخبار، سرعان ما تحوّلت إلى حماس منّا لتغطية تفاصيل ما جرى، لكنه خَبَا عندما جاءت تعليمات بالتريّث قبل إذاعة أيّ شيء عن الاعتداء… لم يكن صعبا فهم أنّ التعليمات كانت قرارا رسميا يؤشر إلى حالة ذهول وارتباك وشك قد أصابت السلطة. كان وزيرا الدفاع صلاح الدين بالي والدّاخلية زين العابدين بن علي منشغليْن أصلا ضمن أقطاب الدولة بجنازة وزير الدفاع الأسبق عبد الله فرحات عندما تلقيا خبرا يُفيد بأنّ “طائرات مجهولة قصفت حمّام الشط”. وقتها، نطق الوزير الأول محمد مزالي بالقول إنّ ليبيا هي مَن تقف وراء الهجوم، في تذكير بأنّ العلاقة مع ليبيا كانت في ذروة التوتر بسبب إبعاد معمر القذافي آلافا من العمّال التونسيين في ليبيا، قبل أسابيع من الحادثة. تصريحات مزالي زادت عند التوانسة الخوف والجهل بما يحدث، وزادهم وزير الإعلام عبد الرزاق الكافي استبلاها في تفسير طول الغموض بالقول: “ما المشكل؟ عندما يتعرض شخص إلى حادث سيارة، لا بد من وقت لمعرفة هويته والإعلان عنه”. رغم هذا كانت وكالات الأنباء العالمية وقنوات تلفزيّة إيطالية وفرنسية قد نقلت عن إسرائيل اعترافها بارتكاب الفِعلة سريعا بعد وقوعها… حتىّ تلك اللحظة، كنّا نحن في الأخبار مازلنا نتخبط في ظلمات الغموض، ومازالت الوكالة الرسمية “تونس افريقيا للأنباء” لم تأت بخبر. ومرّت الساعة 11، ثمّ الساعة 12 في الإذاعة بلا شيء عن الاعتداء. واختلف الأمر في نشرة الواحدة، فقلنا فقط إنّ طائرات مجهولة الهُوية قصفت حمّام الشط. وتواصل التعتيم إلى أن أُذيع الخبر في الساعة الخامسة مساء. أمّا التلفزة فأرسلت فريقا مصوِّرا إلى مخلفات المجزرة الإسرائيلية. وأَعلنت في نشرة الثامنة هويّة القاذفات مُحمِلة في بيان رسمي مقروء المسؤولية للدول الصديقة لإسرائيل، إنّما من دون ذِكر الولايات المتحدة. وهو تجنب مقصود تجاوب معه السفير الأمريكي روبارت بيلترو الابن عندما التقيناه، ليلتها، بين المَدعوين إلى حفل السفارة الصينية بمناسبة العيد الوطني للصين. رفض بيليترو بشدّة أن يُسمعنا شيئا عن الغارة، لكن في اليوم الموالي سَمع هو، في قصر قرطاج، قرار الحسم مِن بورقيبة: إمّا ألاّ تَسخدم الولايات المتحدة الفيتو في التنديد بإسرائيل، وإمّا قطع العلاقات… وكان ما كان.