نشاطات
الإعاقة .. والرؤية الاجتماعية في رواية “صدى الحكاية” لصابرين أبو عسكر الكاتب والناقد الأدبي/ ناهـض زقـوت
الدراسة التي قدمتها في الندوة الأدبية التي نظمتها جمعية أفواج الثقافية للآداب والفنون بالتعاون مع جمعية الشبان المسيحية بغزة يوم 25/6/2023 لقراءة رواية “صدى الحكاية” للكاتبة الفلسطينية صابرين أبو عسكر.
***
لقد سعى الجيل الجديد من كتاب الرواية إلى تجاوز الرؤية السياسية للواقع الفلسطيني، تلك الرؤية التي ترسخت سنوات إلى جانب الثورة الفلسطينية، فكان الالتزام بالقضية الوطنية بكل حيثياتها واجباً وطنياً يلتزم به الكاتب الفلسطيني، فكانت الرواية إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى تسلط الضوء على الأرض والنكبة واللاجئين والمخيمات والاحتلال الاسرائيلي وممارساته القمعية، واجراءاته العنصرية والتهويدية للمكان، وعمال الأراضي المحتلة. في ظل هذا الالتزام كانت الرواية قبل قيام السلطة الوطنية الفلسطينية واتفاق اوسلو. وهذا لا يعني التجاوز الكلي للقضايا الوطنية، بل تعقيدات الواقع الاجتماعي وظهور مشكلات جديدة دفعت الكاتب إلى اختيار موضوعات اجتماعية. لهذا تجاوز الجيل الجديد من الكتاب والكاتبات البعد السياسي لصالح القضايا الاجتماعية المتفاعلة في المجتمع ومناقشتها أدبياً وثقافياً، بهدف إبرازها وتسليط الضوء عليها، فنجد كتابات تسلط الضوء على مرضى السرطان، وفيروس كورونا، وعلى معاناة النساء الأرامل، وتعنيف المرأة اجتماعياً، ومعاناة الفلسطيني على المعابر، والهجرة من الوطن، ومعاناة معاقي مسيرات العودة.
بعد أن خاضت الكاتبة صابرين أبو عسكر تجربة القصة القصيرة، تشحذ أدواتها الفنية وحصيلتها المعرفية في كتابة رواية تسبر من خلالها أغوار المجتمع المكبل بمواريثه العائلية والاجتماعية التي تحدد مكانة المرأة وقيمتها في كامل جسدها لا كامل عقلها وثقافتها. فتأتي رواية “صدى الحكاية” لتعمق الرؤية الاجتماعية في الواقع الفلسطيني والعربي معاً من خلال تسليط الضوء على العنف المضاعف الذي تعانيه المرأة خاصة الفتيات ذوات الاحتياجات الخاصة من تهميش ورفض مجتمعي، واختارت بطلة روايتها (صوفي) أن تكون من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتنطلق معها لتوثق الأحداث وتؤولها وفق رؤيتها، وتشرح المقدمات والنهايات في حياة الشخصيات التي ارتبطت بهم. وتكشف الكاتبة عن رؤيتها في تجسيد هذا المضمون: (لم أخطئ حين اخترت هذه الحكاية لتجسد واقع ذوي الاحتياجات الخاصة بشتى أنواعها).
نؤكد أن الرواية عمل فني، تقدم رؤية كاتبها أو كاتبتها تجاه الأحداث أو البؤرة السردية التي تنطلق من خلالها في تشكيل حياة الشخصيات لكي تستقطب المتلقي ليتعاطف معها أو ينفر منها. وقراءة الرواية هو إعادة تفسير وشرح ما تقوله الرواية من وجهة نظر القارئ، وليس بالضرورة أن يتفق القارئ مع الكاتب أو الكاتبة في وجهة النظر، فثمة تباينات في الرؤية بحكم الثقافة والأبعاد المعرفية للقارئ، ولكن ليس ثمة أحكام قطعية في الرواية، بل ثمة نص يقرأ، ونص لا يقرأ، وثمة نص تشعر بمتعته الجمالية، ونص تشعر بأنك تسحقه بأقدامك.
تمنحنا رواية “صدى الحكاية” الصادرة عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر بغزة سنة 2023، المتعة الجمالية في قراءتها، فالكاتبة صابرين أبو عسكر لديها قدرة فنية – لغوية على كتابة رواية، فهي تتمتع بأسلوب لغوي جمالي قادر على استقطاب فكر القارئ لينفتح على فضاء واسع من الأسئلة والتأملات، فقد وصل بها التجلي اللغوي إلى التلاعب باللغة لوصف الحالة الشعورية للبطلة، فنجدها في حالة الانكسار (صوفي)، وفي حالة الشموخ (صوفيا). لقد كانت متمكنة من أدواتها الفنية بحيث لم يكن من السهولة أن تعطي القارئ مفاتيح السرد، بل تجعله يرهق ذهنه في البحث عن تلك المفاتيح لكي يغوص في قلب الحدث، ويشعر كأنه جزء منه.
نحن أمام رواية رومانسية ذات بعد اجتماعي، بمعنى أن المرء مهما كان رومانسياً في طرحه، لا بد أن يجد أن الواقع الاجتماعي أقوى من طموحاته وأحلامه ورؤاه، فيغلب الواقع بكل أحداثه وتجلياته، وتخطو الرومانسية خطواتها بدلالات اللغة دون أن تحيد عن بعدها الاجتماعي. فالمرء أولاً وأخيراً ابن المجتمع يؤثر ويتأثر به، والكاتب من أكثر الناس احساساً وتفاعلاً مع المجتمع.
يأخذ موضوع الحب البعد الكبير في السرد، وتمنح اللغة القارئ أن يعيش جماليات هذا الحب. كثيرة هي الروايات التي تناولت موضوع الحب، لكن المفارقة بينها هي طريقة التعبير عن هذا الحب، ثمة من يعبر بالأحداث والوقائع والعلاقات الايجابية والسلبية، وثمة من يتخذ من اللغة أداة في صياغة حكاية الحب، وهذا ما فعلته الكاتبة، فكانت اللغة مدخل الحكاية وتبلورها السردي، فالكلمات والجمل تمنحك الاحساس بصوت الساردة وصدق مشاعرها.
يتوافق عنوان الرواية “صدى الحكاية” مع السرد، فالرواية طافحة بالحكايات، ولكل حكاية صدى وهو التأثير وانعكاسه على الآخرين سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي. وهذه الحكايات مترابطة مع الحكاية الرئيسية للرواية، فلكل شخصية في الرواية حكاية وصدى، وجميعها تحمل اعاقات سواء اجتماعية أو نفسية، فالإعاقة ليست فقدان جزءاً من الجسم، بل عدم التوازن مع الذات على المستوى النفسي أو الاجتماعي هو أيضاً إعاقة، لأنه الفرد حينها يصبح منبوذاً أو عالة على المجتمع أو على نفسه هو معاق اجتماعياً.
ويقف القارئ أمام الشخصية الرئيسية (صوفي) الأنا الساردة العليمة بكل شيء، والمحركة لخيوط السرد من أحداث وشخصيات، حتى أغوار النفس البشرية، هيمنة كاملة على السرد دون أن تعطي أصحاب الحكايات دوراً في سرد حكاياتهم أو أن يتحدثوا عن أنفسهم أو عن الأحداث التي مروا بها، فقد هيمنت على السرد بإعلاء مكانتها على الشخصيات وجعلتهم يدورون في فلكها. وهذه السيطرة التي وصفتها الناقدة يمنى العيد باللاديمقراطية، بمعنى أن كاتب غير ديمقراطي.
وينطلق زمن الرواية من بعد أحداث الانقسام الفلسطيني، حيث يقتل والدها الضابط في السلطة في الأحداث، ويستولي عمها الملتحي على بيتها وأموال أبيها، وتصبح هي وأمها المغربية الأصل غرباء في ديارهم. تحاول أن ترسم الكاتبة ملامحاً من تداعيات الانقسام على المجتمع في غزة، والأفكار التي طرحت آنذاك، فقد اعتبر عمها الذي أكل لحم أخيه الموسيقى حرام وحاول كسر قيثارتها لأنها رجس من عمل الشيطان.
لم يعد لها مكان في الوطن، ولم يبق ما يربطها بالوطن غير أخيها محمود (من زوجة ثانية لأبيها)، فتسافر مع والدتها عند أخوالها في المغرب، وتنشغل الكاتبة بهموم مجتمعها الجديد بما كونته من صداقات وهي شخصيات روايتها التي ارتبطت بها وحددت أدوارها ومجال تحريكها في فضاء اجتماعي واقتصادي وفكري، ويتجلى البعد الإنساني في حكايات الشخصيات، إلى جانب هيام صوفي وشغف الروح في توصيل رسالة مفعمة بالإنسانية. ولكن انفتاح علاقاتها على المجتمع المغربي/ العربي لم يكن بعيداً عن فلسطين أو أي مجتمع عربي آخر، فقواسم الألم مشتركة، وقواسم السلوك متقاربة.
يقوم بناء الرواية على حكاية رئيسية، هي حكاية فتاة مثل كل الفتيات في المجتمع، ولكنها تتباين عنهن بأنها معاقة أو من ذوي الاحتياجات الخاصة (صوفي) تلك الفتاة أصيبت بالإعاقة منذ مرحلة الميلاد نتيجة خلع ولادة، وهذه الإعاقة لم تقف حاجزاً بين طموحاتها وآمالها، أو علاقتها مع الآخرين في المجتمع، فقد كانت تتمتع بعلو الاحساس بالذات، ومنذ صغرها لا تحب إلا مجالسة الأكبر منها سناً، تقول: (ثمة شيء مختلف لا يلمسه في روحي سواي). هذا الاحساس يتجلى في صداقتها للطبيعة وعشقها للقيثارة والموسيقى. لم تكمل دراستها الجامعية في غزة، بل أكملتها في المغرب، وهناك تتعرف على المعيد الجامعي (أنيس) وتنشأ بينها علاقة حب عميقة، تشعر صوفي من خلالها بالأمان، ولا يمكن التحدث في بضع كلمات عن علاقة الحب بين صوفي وأنيس، فاللغة الساردة تحمل جماليات التعبير عن هذه العلاقة التي تقرأ للتمتع بجمالها كجمال الحب نفسه. بعد أن جاءت لأنيس منحة الدكتوراه في فرنسا سعى لكي يرتبط بصوفي، ولكن والدته رفضتها عندما شاهدت إعاقتها، ولم يستطع أنيس الدفاع عن حبه، فكانت صدمتها التي هزت كيانها، ليس رفض والدته، بل موقف أنيس المثقف الذي خضع للأفكار السلبية في المجتمع، ولكنها لم تكسر هدفها الذي تسعى إليه وهو انتاج فيلم عن ذوي الاحتياجات الخاصة.
لقد كان موقف والدة أنيس هو موقف المجتمع الذي لا يتقبل الفتاة العرجاء، وهذا الموقف هو نتاج الفكر الراسخ في عقلية المجتمع الذي ينظر للمرأة في اكتمال جسدها لا عقلها، فقد جاء على لسان (بدر) في الرواية ما تؤمن به الكاتبة وينعكس على رؤيتها: (سرطان الفكر أشد خطراً من سرطان الجسد). فالإعاقة في نظرها ليست في القدم بل في العقل تقول: (الإعاقة هي ما نحمله في عقولنا من يأس وشذرات من نفوس أبناء المجتمع المرضى ونظرتهم للأشخاص مثلي).
ترتبط صوفي بالاتحاد العام لذوي الاحتياجات الخاصة في المغرب، وتبدأ من خلاله في ممارسات نشاطها في الدفاع عن حقوق هذه الفئة، والعمل على اعداد فيلم عنهم يشرح معاناتهم الإنسانية والمجتمعية. تسافر من خلال الاتحاد إلى فرنسا، وكانت خطواتها نحو المستقبل لا الماضي، وهناك تتعرف على بدر المهاجر السوري الذي فقد ذراعه في الحرب، وتنشأ بينهما علاقة حب لم تتجاوز اللقاءات، ولكن حكايته تترك صدى عميقاً في نفسيتها ويبقى حاضراً في تفاصيل كثيرة من حياتها.
تقول الساردة: (من الجميل أن يكون لدينا ذاكرة وذكريات، كالتي تبقت لنا من الحكايات، تطفو فوق المياه المالحة، مشبعة برائحتها التي تركناها عليها، مثخنة بمشاعرها، بوجعها ولذتها، جميلة هي كليالي الحب المشرقة، تشرق شموس وتغرب مساءات مليئة بحب متوازن، لا زيادة ولا نقصان).
هذه الذاكرة التي رسمت معالمها من خلال كل شخصية من شخصياتها السردية والتي تحمل حكاية من فضاء المغرب، بقيت حية في ذاكرتها وهي في غزة، مما يعطي دلالة على مدى تأثير ارتباط الساردة بهذه الشخصيات، ولم تستطع في بيئتها الجديدة تكوين صداقات مماثلة، هذه الشخصيات هي التي كانت محور سيناريو فيلمها، فنجد (مها) الطبيبة النفسية صديقة صوفي وحكايتها مع عمر الذي على خلاف مع أخيها قاسم، الذي يرفض زواجها منه، وبعد أن يتوازن قاسم نفسياً يوافق على الزواج. و(قاسم) شقيق مها الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، خريج الجامعة والعاطل عن العمل، ولكنه يعمل في مصنع عمر إلا أنه يختلف معه حينما تأخرت الرواتب، ويتعارك مع عمر تكون نتيجتها فقدان قاسم لعينه، فيصبح معاقاً مما يؤثر على نفسيته، وهذا طبيعي فحينما يصاب الإنسان بعاهة بالضرورة أن تؤثر على نفسيته وسلوكه، وهذا شيء طبيعي للشعور بالنقص عن الآخرين، فسيطرت على قاسم فكرة الانتقام من عمر، ولكنه تغير فجأة ولعب شيخ الجامع (يعقوب) دوراً في تغيير مسار حياته. و(عمر) شقيق أنيس صاحب المصنع، شخصية متعجرفة لا تعطي قيمة إلا للأنا العالية لديه، ولا يرى الآخرين إلا من خلالها، وهي اعاقة اجتماعية في حد ذاتها، لأنها تجر المرء إلى الخلف وتمنعه من تذوق لذة أي شعور سواء ايجابي أو سلبي، يدرك عمر حالته فيخضع للعلاج النفسي عند مها، وتبدأ عليه حالات التغيير مع حبه لمها. و(بدر) السوري الهارب من الحرب الذي يفقد عائلته في الحرب، وكذلك ذراعه، ثم يفقد أخته غرقاً في البحر، حاولت الساردة أن تجمع خيوط متنافرة ومتقاربة في الواقع العربي غزة – سوريا، مما كان لحكايته صدى كبيراً على نفسية الساردة صوفي، فقاسم الألم يجمع بينها، وقد انشدت إليه وأحبته بعد لقائهما في باريس، تقول: (أصبحت حياتي مضرجة بحمرة خفيفة، ثمة خيوط خفية بدأت تتسلل على حياتي، خيوط الأمل التي كان يغزلها بدر كانت تحيك لي حياة سعيدة، في حضرة روحي الجديدة). يسافر معها إلى المغرب، ولكن السعادة لم تكتمل إذ يموت بدر بمرض السرطان ويدفن بعيداً عن وطنه، ولكن تتجلى ذكراه ووفاءً لحبها يقدم لها هدية تكتشفها بعد عودتها إلى غزة، فيقدم لها أنيس مغلفاً تجد فيه تذكرة سفر، وعقد ملكية بيت والدها الذي اشتراه بدر من عمها في غزة، وهنا نكتشف حالة التغير التي طرأت على عمها وعائلته تجاهها.
بناء على دعوة من عمها لتحديد الميراث بعد أن باع ملك أخيه، عادت صوفي إلى غزة، وكان لديها الرغبة في العودة بعد وفاة أمها إذ لم يبق لها أحد في المغرب، ولكنها بقيت على تواصل مع صديقتها مها، ورغم أن غزة مليئة بالأحداث والحكايات، إلا أنها ما زالت تحمل ذاكرة المغرب في غزة، فمع أنيس تتحدث عن قاسم الذي سافر إلى تركيا، وعن عمر الذي ينتظر مولوده الجديد من مها. هل يعني ذلك عدم قدرتها على التكيف مع المجتمع في غزة، لهذا استعانت بالطبيبة النفسية (رنا) لكي تساعدها في إعادة التوازن لذاتها.
عادت صوفي لحضن الأسرة لتكتشف كم التغيرات الذي حدثت لهذا المجتمع بعد عشر سنوات قضتها في المغرب، حتى عمها الملتحي الذي اعتبر القيثارة من رجس الشيطان يجلس ويستمع إلى عزفها، وهذا يعني لم يعد الدين سيد الحالة بل المصالح والامتيازات، ويصبح أخيها محمود سندها بعد أن ترفض المناقشة في موضوع الميراث. مما يعطي دلالة على تغير المجتمع في قطاع غزة تحت سلطة الأمر الواقع.
في غزة تعيد تدور روايتها أو حكاياتها بأن تعيد كتابتها وتستعيد أحداثها في سيناريو فيلم، في قالب جديد وممثلين جدد، فهذا أحمد يقوم بدور قاسم، والفيلم من انتاج شركة فرنسية يكون (أنيس) على رأسها والذي يحضر إلى غزة لمتابعة الفيلم تقول: (في كل مشهد كنت أدون به حكاية من حكايات من حولي .. نحن لا نشهد النهايات وحسب، نحن نخلقها كما خلقنا البدايات يوماً).
تكتشف صوفي أن الحياة لا تتغير بل الروح الكامنة في الذات هي القابلة للتغيير، وأن الحياة ما زالت مستمرة بكل تشوهاتها وأفكارها الايجابية والسلبية، والإعاقة ليست نهاية الحياة، بل قد تكون بداية حياة جديدة.