ثقافه وفكر حر

عزيزي وصديقي القاريء إذا لم يسعفك صبرك على المطالعة فإنني أعفيك من قراءة قصتي

المحامي محمد حافظ

عندما تجاوز عمر الطفل الثلاث سنوات لاحظت أمُّه بأنه عندما يرفع اللقمة إلى فمه فإنه يرفعها بيده اليسرى .. لم تهتم الأمُّ بداية الأمر بذلك وخمّنت في نفسها بأنها ربما محض صدفة عابرة وتنتهي ، لكنها مع ذلك وضعت في اعتبارها الانتباه له ومراقبته في قادم الأيام ..
ولمّا تكرر منه ذلك فقد ايقنت بأن طفلها أعسر وارتأت من وجهة نظرها أن تصحح ما اعتبرته تشوّها أو إعاقة عند الطفل بل وفوق ذلك اعتبرته مخالفة لمفاهيم دينية وتقاليد جرت مجرى العرف بين الناس ..
وهكذا راحت في كلّ مرة تراه أو تلاحظه يستعمل يده اليسرى خصوصاً عند الأكل تلطمه على ظاهر يده لطمة تؤذيه وتأمره أن يستعمل يده اليمنى .. يبكي الطفل بكاءً مرّاً عند كل مرّة تلطمه أمّه ولكن ما كان يحزّ في نفسه أكثر ويحطُّ الحسرات في نفسه عدم قدرته على استعمال يده اليمنى كما تريد له أمُّه وكما يشتهي هو نفسه …
ومع مرور الأيام والشهور بل الأعوام ومع استمرار معاقبة والدته له ، وقد سايرها والده في سلوكها بل ساهم هو الآخر بمعاقبة الطفل فكان عند كل مرة يرى طفله يمد يده اليسرى إلى المائدة أمسكها عليه وزاد بأن لطمه على ظاهرها تماما كما تفعل والدته ..
وهكذا شبّ الطفلُ وقد تكرّس في اعتقاده أن استعمال يده اليسرى هو بمثابة الجريمة أو قُل الوقوع في الذنوب والخطايا ..
كبرَ الطفلُ وكبر معه هذا المفهوم الخاطيء ، وتفاقمت معاناته مع اللطم من جهة ومع عجزه عن التحكّم على يده اليمنى كما أراد له والداه فضلاً عن غريزته ورغبته في السيطرة على سلوكه وتصرّفاته عند استعمال يديه كما يشتهي هو وكما أراد له الخالق ..
إلى هنا لم تنتهِ معاناة الطفل عند حدود رغبة الوالدين فقد واجه معضلة أقسى وأشدّ ألماً بعد دخوله المدرسة وانتظامه مع سائر الطلبة ، فقد واجه التعنيف والتأنيب في قاعات الدرس لرداءة خطّه الصادر عن يده اليمنى وتعرّج السطور التي تحمل كلماته على متنها ..ولا أحد غير الله درى وعلمَ بمعاناة ذلك الطالب وآلامه في كلّ مرّة يواجه معلميه باوراقه وكراريسه ..
لقد استطاع والداه أن يجبراه على استعمال يده اليمنى لكنهما لم يفلحا أبداً أن يزرعا فيها القوّة والتوازن ومن ثم التحكم باستعمالها كما يريدان له وكما أراد له الخالق في يده اليسرى ..
إلى أن جاء يومٌ وانقلب السحرُ فيه على الساحر ، فقد انقلب على والديه وعلى معلّميه ما جنوه على الطفل حين طلب مدرّس الفنون ذات حصّة من طلّابه أن يفعلوا ما يحلوا لهم على كراريسهم سواء كتابةً أو رسماً أو حتى تشكيلاً ما بأوراقهم .. فقد لاحظ المدرّس أن تلميذه هذا كان يبدو مضطرباً وقلقاً وهو ينقّل القلم ما بين يده اليسرى واليمنى وقد اعتراه وجوم بل أسى مُمِض وحزن شديد إلى الحدّ الذي التمعت عيناه بدمع شفيف ، وقد نكّس رأسه فوق كرّاسه ملتزماً الصّمت ، فما كان من معلّمه إلّا أن اقترب منه محاولاً أن يعرف سرّ وجومه واضطرابه بل وهذا الحزن البادي على محيّاه ، وأمام الحاح المعلم ومداراته له وتعاطفه معه مدّ التلميذُ يده اليسرى إلى حافظة كتبه وأخرج منها بضعة رسوم لأبطال تاريخيين وشخصيات ثقافيه ومناظر للطبيعة بوديانها وجبالها وانحناءاتها وكذلك أشجارها وطيورها حتى إذا شاهدها المعلّم احتضن تلميذه وهو يربّت على ظهره وقد ترقرق الدمعُ في عينيه ، وهو لا يدري أحزناً شارك تلميذه البكاء أم غبطة وسروراً على اكتشافه لموهبته !!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق