مقالات

كنت قد التقيت الشاعر احمد دحبور لاول مرة عام ١٩٧٤ في مخيم اليرموك في دمشق، بعد ابعادي من فلسطين بعدة شهور

كنت قد التقيت الشاعر احمد دحبور لاول مرة عام ١٩٧٤ في مخيم اليرموك في دمشق، بعد ابعادي من فلسطين بعدة شهور، آت اليها من القاهرة مروراً ببيروت. كانت تلك هي الليلة الاولى التي تدثرني بها دمشق وتأخذني الى حضنها لاول مرة في حياتي.. وفي بيته هو . كان صديقنا الشاعر الرقيق الحالم دوماً ، احمد دحبور ، قد حملني اليها من بيروت ، واخاله على راحتيه يومها فرحاً بذلك النورس الذي حط فوقهما ورذاذ الموج في بحر حيفا لا يزال يقطر من جناحيه ملحا وشذى .. وحيفا هي الحبيبة التي لا حب قبلها.. لا حب معها.. هي النبض الذي يسري في عروق احمد.. هي العمر.. هي الشعر.

لم ادرك كم من الوقت امضيت في الطريق الى دمشق برفقته وكذا المسافة التي قطعت.. هكذا هي رفقة احمد، ولكنني اذكر انه قد باغتني ذلك المساء ببردي، وبذراعي صديقي الكاتب العاصفة، رشاد ابو شاور.. المشرعتين كضفتي نهر ليضمني الى صدره العريض المورق حباً ودفئاً .. افلت من حولي ذراعيه.. ظلتا مشرعتين.. تاهت من الدهشة عيناه .. سأل : أين تركت الحطة والعقال؟
اين قميازك وحزامك ايها الفلاح الذي عرفناك من خلف الحدود واسلاك الشوك والموت ؟!
تحسّسّ جنبي باحثاً وهو لا يزال يسأل : اين شبابتك؟ اين المجوز واليرغول الذي كنا نسمع من هناك في المراعي خلف اغنامك؟؟! كان جاداً في سؤاله .. وحين ابتسمت له حائراً ، تقوضت مقالع ضحكته واشرع للريح ذراعيه ثانية .. ذراعان نهران كانتا له مشرعتين .. بردي والاردن.. مدينتان كانتا.. دمشق وحيفا.. والصدر المنبلج عن قميصه مرجان .
ابن عامر والغوطة، عجبت ، واحببت يومها بحب ذالك الثالوث المتدفق وطنا وابداعاً ومنفى ، دمشق أكثر.. وعشقت الكاتبة اكثر .. ولم نفترق بعدها.. الا حين فرقتنا بيروت اولاً .. لتجمعنا تونس من بعدها، فتفرقنا اوسلو وبعد مقام طويل هذه المرة.. ثانياً .. فاحمد الى غزة.. ويحي الى رام الله وما بينهما القدس الحرام.. ولكنهما الوطن. اما رشاد، فقد قادته الدروب الى عمان … واشهد انك يا عمان وطنا ، وان كان دونه ودونهما الاردن الحرام. وانا الباقي في تونس وحدي .. فهل انت التي القمتني يا تونس ثديك حين اضاعني الظغن وارتحل.. ام انني انا هو الذي على صدرك ارتمى ، وتحت ثوبك، حينما الظعن ابتعد ؟ اهي الوطن انت يا تونس؟ فلسطين انت وان كان دوني ودون الثلاثة البحر والصحراء والغور وفلسطين الحرام ؟! اجوب العواصم كلها .. اقطع البحر.. اقطع الصحراء.. اقطع الغور حتى لا يفصلني عن فلسطين غير فلسطين.. غير ما يفصل القلب عن وريده ، وغير ما يفصل الروح هن الروح .. فاليك من ثم ارتد .. واليك أعود.. يا تونس !!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق