مقالات
بَيْنَ الرَّشِيدِ وَنِقْفُور: أ. د. لطفي منصور
يُخْطِئِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْخَليفَةَ الرَّشِيدَ كانَ مُنْغَمِسًا في الْمَلاهي، والْقِيانِ وَالْمَلَذّاتِ، وَمُنادَمَةِ أَبي نُواسٍ، وَمُعاقَرَةِ الْخُمُورِ، وَلا إسْهامَ في الْجِهادِ، وَالدِّفاعِ عَنْ الْإمْبَراطورِيَّةِ الْإسْلامِيَّةِ في وَجْهِ الطامِعِينَ في مُلْكِها الْمُمْتَدِّ في الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَخاصَّةً الرُّومَ مُلُوكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
تَعَقَّبْتُ أَعٍمالَ الرَّشيدِ في كُتُبِ الْحَوْلِيّاتِ، وَخاصَّةً تاريخَ الطَّبَري، وَالْكاملَ في التّاريخِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، والْبِدايَةِ والنِّهايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ وَغَيْرِها كتاريخِ الْخُلَفاءِ للسُّيوطي، فَوَجَدْتُ خَليفَةً جَلْدًا، بَطَلًا شُجاعًا مُحارِبًا يَقُودُ الْجُيُوشَ بِنَفْسِهِ، تَقِيًّا عابِدًا، حَجَّ سَبْعَ مَرّاتٍ بِمَواكِبَ فَخْمَةٍ، شَدِيدَ الصَّوْلَةِ عَلَى أَعْدائِهِ.
كانَ عَصْرُهُ عَصْرَ عِلْمٍ وَرَفاهِيَةٍ وَبَذَخٍ ، مُحِبًّا لِلْأَدَبِ وَالشِّعْرِ وَالْعُلُوم، أَنْشَأَ بَيْتَ الْحِكْمَةِ أَوْ خَزائِنَ الْحِكْمَةِ، وَكانَ يَفْرِضُ قِسْمًا مِنَ الْجِزْيَةِ كُتُبًا.
اِسْتَقَرَّ الرَّشيدُ في بَغْدادَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ خِلافَتِهِ
الَّتِي دامَتْ ثَلاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ نَقَلَ عَاصِمَتَهُ إلَى الرَّقَّةِ عّلَى نَهْرِ الْفُراتِ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الرُّومِ الْبيزَنْطِيِّينَ الَّذينَ كانُوا يُهَدِّدونَ الْحُدُودَ الشَّمالِيَّةَ لِلدَّوْلَةِ الْإسْلامِيَّةِ.
مَلَكَ في عَهْدِ الرَّشِيدِ بِيزَنْطَةَ إثْنانِ مِنَ الْقَياصِرَةِ هُما : قُسْطَنْطينُ السّادِسُ وَكانَ صَغِيرًا، فَطَمٍعَتْ أُمُّهُ إيرينِي في الْحُكْمِ، وَخَلَعَتِ ابْنَها الْقاصِرَ وَسَمَلَتْ عَيْنَيْهِ، وَجَلَسَتْ عَلَى الْعَرْشِ وَتَسَمَّتْ بِاسْمِ (Aiiyusla).
عارَضَ الشَّعْبُ البيزنطيُّ اِعْتِلاءَ إيريني عَلَى الْعَرْشِ، وَكَذَلِكَ شارْلَمان، فَاضْطُرَّتْ لِمُصالَحَةِ الرَّشيدِ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ لَهُ. وَبَعْدَ سَنَواتٍ قَليلَةٍ اِسْتَطاعَ نِقْفُور أَنْ يَخْلَعَ الْمَلِكَةَ إيريني وَيَسْتَوْلِيَ عَلَى الْحُكْمِ.
كانَتْ أَوَّلَ أَعْمالِ نِقْفور إلْغاءُ إتِّفاقِيَّةِ الصُّلْحِ مَعَ الرَّشِيدُ، وَكَتَبَ لَهُ الرِّسالَةَ التّالِيَةَ:
“مِنْ نِقْفُور مَلِكِ الرُّومِ إلَى هارونَ مَلِكِ الْعَرَبِ.
أَمّا بَعْدُ،
فَإنَّ الْمَلِكَةَ الَّتِي كانَتْ قَبْلِي أَقامَتْكَ مَقامَ الرُّخِّ ، وَأَقامَتْ نَفْسِها مَقامَ الْبَيْدَقِ ، فَحَمَلَتْ لَكَ مِنْ أَمْوالِها ما كُنْتَ حَقِيقًا بِحَمْلِ أَمْثالِهِ إلَيْها، لَكِنَّ ضَعْفَ النِّساءِ وَحُمْقَهُنَّ. فَإذا قَرَأْتَ كِتابِي فَارْدُدْ ما حَصَلَ قِبَلَكَ مِنْ أَمْوالِها وَإلّا فَالسَّيْفُ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ”.
(الرُّخُّ وَالْبيذقُ أَوُ البيدَق مِنْ قِطَعِ الشَّطْرَنْجِ الرَّئٍيسَةِ)
فَلَمّا قَرَأَ الرَّشِيدُ هَذا الْكِتابَ اِسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ، فَدَعا بِدَواةٍ وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتابِ:
“بِسْمِ الَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مِنْ هارُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنينَ إلَى نِقْفُور كَلْبِ الرُّومِ:
قَدْ قَرَأْتُ كِتابَكَ. وَالْجَوابُ ما تَراهُ دُونَ أَنْ تَسْمَعَهُ”.
فقامَ الرَّشِيدُ مِنْ يَوْمِهِ كَالْأَسَدِ الْهَصُورِ، وَقادَ جَيْشًا لَجِبًا، وَوَصَلَ إلَى هِرَقْلَةَ وانتَصَرَ عَلَى الرُّومِ وَعادَ نِقْفُور وَخَضَعَ إلَى دَفْعِ الْجِزْيَةِ. وَرَجَعَ الرَّشيدُ إلَى الرَّقَّةِ، وَعادَ نِقْفُور وَأَبْطَلَ الْمُعاهَدَةَ الْجَدِيدَةَ ظَنًّا مِنْهُ أنَّ الْعَرَبَ لا يسْتَطِيعُونَ اِقْتِحامَ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالثُّلُوجِ.
فَكَرَّ الرَّشِيدُ راجِعًا مُقْتَحِمًا جِبالَ طوروسَ وَأَوْقَعَ بالرُّومِ هَزِيمَةً نَكْراءَ، ونَجا نِقْفُور بِجِراحاتِهِ الْبَلِيغَةِ، واضْطُرَّ لِلْخُضُوعِ.
وَبَعْدَ ثَلاثِ سَنَواتٍ خَرَجَ بَعْضُ الْقادَةِ الْفُرْسِ عَلَى الرَّشيدِ، فَاضْطُرَّ لِإخْمادِها.
اسْتَغَلَّ نِقْفُور هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَهاجَمَ قِلاعَ الْمُسْلِمينَ.
هَبَّ الرَّشِيدُ وَقادَ جَيْشًا عَدَدُهُ 135 ألْفًا وَاجْتاحَ آسْيَةَ الصُّغْرَى وَاحْتَلُّوا مُدُنًا وَضِياعًا كَثيرَةَ، وَهَرَبَ نِقْفُور وانتَصَرَ الرَّشِيدُ. وَعادَ الْأَمْنُ عَلَى الْحُدودِ.