مقالات
مَسْأَلَةٌ مِنَ التَّنْزِيل: أ.د. لطفي منصور
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)
ذَكَّرَني هَذا الْقِسْمُ مِنَ الْآيَةِ كَيْفَ كانَ الْأَساتِذَةُ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ في الْجامِعاتِ يَحْتارُونَ في فَهْمِ المُصْطَلَحِ “عَنْ يَدٍ”. وَاعْتَرَفَ أُسْتاذُ الْقُرْآنِ في إحْدَى الْجامِعاتِ أنَّهُ لا يَجْزِمُ في الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ.
هذا ليسَ عَجَبًا مِمَّنْ لا يَنْطِقُ بِالعَرَبِيَّةِ.
مِنَ الصَّعْبِ عَلَى الْمُسْتَشْرِقينَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَشِبْهِ الْجُمْلَةِ.
فَالْجُمْلَةُ تَرْكِيبٌ كَلامِيٌّ لَهُ مَعْنًى تامٌّ. وَتَكُونُ اسْمِيَّةٌ مِثْلُ الْحَديقَةُ جَميلَةٌ، أوْ في الْبَحْرِ سَمَكٌ.
وَتَأتِي الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً مُكَوَّنَةً مِنْ فِعْلٍ وَفاعِلٍ، مِثْلُ سَقَطَ الْمَطَرُ. الْجُمْلَةُ الْمُكَوَّنَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لا غَيْرُ أوْ مِنَ الْفِعْلِ والْفاعِلِ لا غَيْرُ تُسَمَّى الْعُمْدَةَ. وَما زادَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَشْوٌ وَزِيادَةٌ بالْمَعٍنَى.
أَمّا شِبْهُ الْجُمْلَةِ فَهِيَ الْجارُ وَالْمَجْرورُ وَالظَّرْفُ، وَهُما مُتَعَلِّقانِ في الْأَغْلَبِ بِحالٍ مُقَدَّرَةٍ. مِثالٌ:
غَرَّدَ الطّائِرُ فَوْقَ الْغُصْنِ. فَوْقَ ظَرْفُ مَكانٍ مَنْصُوبٌ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ تَقْدِيرُها كائِنًا أوْ حاصِلًا أَوْ مَوْجُودًا. يُشَكِّلُ مَعَ الْحالِ الْمُقَدَّرَةِ شِبْهَ جُمْلَةٍ. وَمِثالٌ آخَرُ عَنِ الْجارِ وَالْمَجْرور:
تَناوَلْتُ الثَّوْبَ عَنِ الْمِشْجَبِ. عَنِ الْمِشْجَبِ جارٌ وَمَجْرورٌ يُشَكِّلانِ شِبْهَ جُمٌلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بٍحالٍ مُقَدَّرَةً كما في الْمِثالِ الْأَوَّلِ.
كَتَبَ لَنا أسْلافُنا أَعْمالًا نُطَأْطِئُ لَها الْهاماتِ إذا عَرَفْناها جَيِّدًا وَجَدْنا بِها ضالَّتَنا، مِنْ ذَلِكَ أَدَبٌ يُسَمَّى أَدَبَ الْأَمالي وَالْمَجالِسِ . تَحَدََثْتُ عَنْ قِسْمِ مِنْهُ وَهُوَ أَمالي الْقالي وَنَوادِرِهِ، فَلَوْلاهُ لَما عَرَفْنا شَيْئًا عن حديثِ الْإيلافِ، الَّذي ذُكِرَ في سورَةِ قُرَيْش. هذا الْكِتابُ واحِدٌ مِنْ مَجموعَةِ مُؤَلَّفاتٍ في الأمالي، مِثْلُ أمالي الشَّجَري، وَأمالي اليزيدي، وَأمالي الْمَرزوقي، وَأمالي ابنِ الحاجِبِ وهي في النَّحْوِ، وَأمالي الْمُرْتَضَى، وَمجالِسِ الزَّجّاجي، وَغَيْرُها كَثير.
هَذِهِ الْكِتُبُ كانَتْ مَجْهولَةً لَدَى الْمُحاضِرين. يَجوزُ أنْ يَكونَ لَهُمْ عُذْرُهُمْ لِصُعوبَةِ الْمادَّةِ، وَتَحْتاجُ قِراءَتُها إلَى صَبْرٍ شَديدٍ.
وَكَما حَلَّ لَنا القالي مُشْكِلَةَ الْإيلافِ، وَأَصْبَحَ مَعْروفًا لَدَيْنا قامَ الْمَرْزوقي في أماليهِ بِشَرْحِ الْمُصْطَلَحِ “عَنْ يَدٍ” في الايَةِ الشَّريفَةِ.
الْمَرْزُوقي هُوَ أَحْمَدُ بنُ محمَّدِ بنِ الْحَسَن الْأَصْبَهاني: لُغَوِيٌّ، نَحْوِيٌّ. لَهُ شَرْحُ حَماسَةِ أبي تَمّامٍ، وَشَرْحُ الْفَصيحِ لِثَعْلَب، وَشَرْحُ الْمُفَضَّلِيّاتِ. تُوُفِّيَ الْمَرْزوقي سَنَةَ (٤٢١هج).
(يُراجعُ مُعجمُ الْمُؤَلِّفينَ لِكَحّالة ٢: ٩١)
يَقولُ: “عَنْ يَدِ” فِيهِ وُجوهٌ، الْيَدُ هِيَ النِّعْمَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ نِعْمَةٍ عَلَيْهِمْ، وَامْتِنانٍ لِلْمُسْلِمِينَ فيهِمْ، وَهُوَ تَرْكُهُمْ عَلَى ما هُمْ عَلَيْهِ، وَتَخْلِيَتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبابِهِمْ وَمَساكِنِهِمْ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ “عَنْ يَدٍ” نَصْبًا عَلَى الْحالِ. كَأَنَّهُ قالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ مُقابَلَةً لِنِعَمِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَعِوَضًا عَنْها (بَدَلَ حِمايَتِكُمْ لَهُم فَهُمْ ذِمِّيُّونَ).
وَيَكُونُ الْمُرادُ بِالْيَدِ أيْضًا الْقُوَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: لا يَدَ لي بِكَذا، أيْ لا قُوَّةَ لي بِكَذا. أيْ لَكُمُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِم.
وَإذ كانَ يَحٍقُّ لِلْمَرْزوقي أنْ يَجْتَهِدَ في الشَّرْحِ وَالتَّفْسير يَحِقُّ لَنا الِاجْتِهادُ، وَإضافَةُ ما لَمْ يَذْكُرْهُ، وَهُوَ: أنْ يدْفَعُوا الْجِزْيَةَ، وَتَشْمَلُ الْخَراجَ الْمَفْرُوضَ عليهِمْ، عَنْ يَدٍ، أيْ بِأَيْديهِمْ هُمْ، دونَ أنْ يُوَكِّلُوا أَحَدًا بَدَلَهُمْ.
لا أَقْبَلُ تَفْسيرَ بَعْضِهِم لِكَلِمَةِ “صاغِرُونَ” “أَذِلّاءَ”. مَعاذَ اللَّهُ أنْ يَكُونَ الْإسْلامُ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، لٍقَوْلِ النَّبِيُّ:”أنا أَوَّلُ مَنْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ، وَدُسْتُورُ الْمَدِينَةيَشْهَدُ عَلَى ما أقولُ. وَتَفْسِيرُ “صاغِرِونَ” أيْ مُطيعُونَ لِلنِّظُمِ الْإسْلامٍيَّةِ.
(يُنْظَرُ أمالي الْمَرْزوقي ص: ٨٧-٨٨. دار الغربِ الْإسْلامي ١٩٩م)