مقالات
العلامة رحمت الله الهندي.. حفيد عثمان بن عفان الذي ألف أشهر كتاب في الدفاع عن الإسلام
الاحتلال البريطاني رعى الحملات التنصيرية في الهند وحماها (غيتي)
على الرغم من مرور أكثر من 150 عاما على صدور كتاب “إظهار الحق” للعلامة رحمت الله الهندي، فإن هذا السِفر الفريد لا يزال علامة بارزة في المكتبة الإسلامية بوصفه أفضل كتاب ألف في التاريخ الحديث للرد على الشبهات التي أشاعها المنصرون.
وكذلك فإن قصة حياة المؤلف وظروف تأليف الكتاب لا تزال إلهاما متجددا لأجيال من المسلمين الذين وجدوا بين أيديهم ميراثا ثمينا وعلما محققا يستعينون به في التصدي للحملات المتعاقبة التي أرادت النيل من الإسلام أو التشكيك في القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المولد والنشأة
ولد مولانا محمد رحمت الله بن خليل الرحمن الكَيْرانَوي العثماني الهندي عام 1818 في بلدة كَيْرانة، التي تقع حاليا ضمن ولاية أوتار براديش شمالي الهند، وتبعد حوالي 100 كيلومتر عن العاصمة نيودلهي.
ويلقب بالعثماني لأن نسبه ينتهي إلى الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه، عند الجد الـ 34.
نشأ الشيخ الهندي في عائلة من العلماء والوجهاء ممن تقلدوا المناصب الرفيعة ذلك الوقت، وقد حفظ القرآن الكريم في سن الـ 12، وأتقن اللغة الفارسية، وقرأ كتب الفقه واللغة العربية على يد علماء من العائلة ثم ارتحل إلى دلهي لمواصلة تعليمه.
وبعد دراسته في دلهي، توجه الشيخ العثماني إلى لكهنو حيث أخذ العلم عن المفتي سعد الله المراد آبادي، وظهر نبوغه في الفقه وعلوم الشريعة الإسلامية.
تصدر الهندي مجالس الدرس والإفتاء، وأسس مدرسة شرعية في كيرانة، غير أن صعود حملات التنصير تحت رعاية الاحتلال الإنجليزي وحمايته جعلت الشيخ يبذل جل وقته وجهده في التصدي لهذه الحملات.
وانبرى العثماني لإبطال دعاوى المنصرين والرد على شبهاتهم، فأخذ يؤلف الكتب والرسائل ويدعو كبار المنصرين وأكثرهم تأثيرا إلى مناظرته.
وعن هذه الحملات يقول الشيخ بمقدمة كتابه “إظهار الحق” (تحقيق الدكتور محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي) إن “الدولة الإنجليزية لما تسلطت على مملكة الهند تسلطا قويا وبسطوا بساط الأمن والانتظام بسطا مرضيا، ومن ابتداء سلطنتهم إلى ثلاث وأربعين سنة، ما ظهرت الدعوة من علمائهم إلى مذهبهم. وبعدها أخذوا في الدعوة وكانوا يتدرجون فيها، حتى ألّفوا الرسائل والكتب في رد أهل الإسلام، وقسموها في الأمصار بين العوام، وشرعوا في الوعظ في الأسواق، ومجامع الناس، وشوارع العامة”.
“وكان عوام أهل الإسلام إلى مدة متنفرين عن استماع وعظهم ومطالعة رسائلهم، فلم يلتفت أحد من علماء الهند إلى رد تلك الرسائل، لكن تطرق الوهن بعد مدة، في نفور بعض العوام، وحصل خوف مزلّة أقدام بعض الجهال الذين هم كالأنعام، فعند ذلك توجه بعض علماء أهل الإسلام إلى ردهم، وإني وإن كنت منزويا في زاوية الخمول، وما كنت معدودا في زمرة العلماء الفحول، ولم أكن أهلا لهذا الخطب العظيم الشأن، لكني لما اطلعت على تقريراتهم وتحريراتهم، ووصلت إليَّ رسائل كثيرة من مؤلفاتهم، استحسنت أن أجتهد أيضا”.
وكان من أشهر المنصرين وأوسعهم نشاطا القس الألماني البروتستانتي كارل غوتليب فندر (Karl Gottlieb Pfander) الذي كان يدعو العوام إلى المسيحية في الأسواق والمنتديات وحتى أمام المساجد تحت حماية جنود الاحتلال الإنجليزي.
واشتهر فندر بكتابه “ميزان الحق” الذي ضمّنه أبرز الشبهات والاعتراضات على الإسلام والقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المناظرة الشهيرة عام 1854
عندما ذاع صيت القس فندر، كتب إليه الهندي يطلب مناظرته، فوضع القس شروطا رآها الشيخ مجحفة لكنه قبلها مع ذلك لحرصه على إقامة المناظرة مع الشخص الذي وصفه بأنه كان “بارعا وأعلى كعبا من علماء المسيحية الذين كانوا في الهند مشتغلين بالطعن والجرح على الملة الإسلامية”.
وقال الشيخ إنه اجتهد من أجل إقامة المناظرة “ليتضح حق الاتضاح أن عدم توجه علماء الإسلام ليس لعجزهم عن رد رسائل القسيسين كما هو مزعوم بعض المسيحيين، فتقررت المناظرة في المسائل الخمس التي هي أمهات المسائل المتنازعة بين المسيحيين والمسلمين أعني: التحريف والنسخ، التثليث، حقية القرآن، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم”.
وبعد الاتفاق أقيمت المناظرة -التي تعد من أشهر المناظرات بين العلماء المسلمين والمسيحيين في التاريخ الحديث- على مدى يومين في أكبر أباد (مدينة أغرة حاليا بولاية أوتار براديش) بحضور جمع من العلماء والأمراء والوجهاء من الهنود والإنجليز.
وعن مجريات المناظرة يقول الشيخ العثماني “ظهرت الغلبة لنا بفضل الله في مسألتي النسخ والتحريف اللتين كانتا من أدق المسائل وأقدمها في زعم القسيس.. فلما رأى ذلك سَدَّ باب المناظرة في المسائل الثلاث الباقية”.
فعلى الرغم من أن النقاش كان قد حسم في مسألتي التحريف والنسخ، قرر فندر بعد ذلك ألا تتم المناظرة إلا إذا أقر الشيخ بأن “الكتاب المقدس” لم يحرَف، وكان هذا إيذانا بنهاية المناظرة.
مطلوب لدى الإنجليز
لمع نجم العثماني بعد المناظرة، ولا سيما أن تصديه للتنصير ترافق مع جهوده في مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وكان ذلك كفيلا بأن يجعله هدفا لسلطات الاحتلال التي بدأت ملاحقته ورصدت مكافأة للقبض عليه، كما صادرت أملاكه ومنعت كتبه من التداول.
على إثر ذلك قرر الشيخ مغادرة الهند، فارتحل إلى مكة المكرمة، حيث التقى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ أحمد بن زيني دحلان، الذي عرف قدره وأكرمه وأعطاه إجازة التدريس في المسجد الحرام.
كتاب “إظهار الحق”
كان فندر منصرا واسع التأثير وكانت له جولات في أقطار عدة لنشر دعوته، وقد سافر إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية حيث التقى السلطان عبد العزيز الأول (1830-1876) وادعى أمامه أنه كانت له الغلبة على الشيخ الهندي في تلك المناظرة الشهيرة.
وقد ساء السلطان ما سمعه من فندر، وأخذ يسأل عن أخبار الشيخ الهندي حتى علم بمقامه في مكة وطلب منه الحضور إلى الآستانة.
وهناك وبعد أن كان فندر قد رحل، استمع السلطان إلى حديث الشيخ العثماني وبيانه لما دار في تلك المناظرة، فهدأت نفسه وطلب منه أن يكتب كتابا يفصّل في مسائل المناظرة ليكون مرجعا في الرد على الشبهات التي أذاعها فندر وأمثاله.
وعكف الشيخ على تأليف هذا الكتاب بالعربية، فأكمله في حوالي 5 أشهر فقط عام 1864، معتمدا على ما كتبه سابقا بالفارسية والأوردية في تلك المسائل.
وبالرغم من أن السلطان العثماني أوعز إليه بذلك، فإنه رد الفضل إلى أول من أوصاه بتأليف هذا الكتاب وهو إمام المسجد الحرام الشيخ دحلان.
يقول الهندي في مقدمة كتابه “وصلت إلى مكة شرفها الله تعالى وحضرت عتبة الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة، عين العلم والدراية، ينبوع الحكم والرواية، شمس الأدباء، تاج البلغاء، مقدام المحققين، سند المدققين، إمام المحدثين، قدوة الفقهاء والمتكلمين، فلذة كبد البتول، سمي الرسول المقبول، سيدي وسندي ومولاي السيد أحمد بن زيني دحلان، أدام الله فيضه إلى يوم القيام، فأمرني أن أترجم باللسان العربي هذه المباحث الخمسة من الكتب التي ألفت في هذا الباب، لأنها كانت إما بلسان الفرس، وإما بلسان مسلمي الهند”.
لم تكن شهرة الكتاب واسعة في كل العصور، لكنه كان دائما ملهما للدعاة والمناظرين الذين نهلوا من معارفه الواسعة واقتبسوا من حججه وبراهينه القوية ومن بحوثه المحققة في الإسلام والمسيحية.
في طليعة هؤلاء الشيخ أحمد ديدات الداعية الذي خاض أشهر المناظرات وأقواها مع علماء المسيحية في الغرب، وكان رائدا في هذا المجال وسار على نهجه كثير من الدعاة حتى اليوم.
يقول الشيخ ديدات إن كتاب “إظهار الحق” غيّر حياته بعد أن وقع بين يديه مصادفة حين كان في أمسّ الحاجة إليه.
وقد روى الشيخ هذه القصة العجيبة التي وقعت في أعقاب هجرته وهو ابن 9 سنين من الهند إلى جنوب أفريقيا عام 1927، حيث التحق بوالده الذي سبقه بالهجرة واستقر في مدينة ديربان.
ارتاد ديدات المدرسة لفترة قصيرة ثم تركها لأن العائلة كانت تواجه مصاعب مالية، فاضطر للعمل في متجر للبقالة في ريف مدينة ديربان.
قبالة المتجر تماما يقع مقر “إرسالية آدمز” المسيحية حيث يتدرب الطلبة على أساليب التنصير والتأثير على المسلمين من سكان تلك المنطقة.
يقول ديدات إن هؤلاء الطلبة جعلوا حياته وحياة رفاقه الذين يعملون في المتجر جحيما، فعندما كانوا يأتون لشراء حاجياتهم كانوا يمطرونهم بالشبهات والأسئلة عن الإسلام والرسول.
ويضيف: فتارة يقولون إن الإسلام انتشر بالسيف وتارة يقولون إن رسول الإسلام كانت له زوجات كثيرة، وحينا يقولون إن الرسول اقتبس القرآن من كتب اليهود والنصارى.
وكان المنصرون الناشئون يتدربون بذلك على استخدام ما تعلموه في الإرسالية، لكن ديدات لم يكن يجد هو أو رفاقه ما يردون به عليهم لأنهم كانوا يجهلون تلك المسائل، وكان ذلك يحزنهم ويؤلمهم أشد الألم.
لكن هذه الحال كانت على وشك أن تتغير تماما، فذات يوم كان ديدات ضجرا يبحث عن شيء يسلي به نفسه فذهب إلى مخزن صاحب المتجر وأخذ يفتش في كومة من الصحف القديمة علّه يجد شيئا يقرؤه.
وحينئذ وجد كتابا قديما سقط عنه غلافه وبليت أوراقه، وفي أول صفحة قرأ العنوان: إظهار الحق، وقد كتب بحروف إنجليزية (Izhar ul-Haq) وتحته الترجمة: (The Truth Revealed).
كانت هذه النسخة ترجمة إنجليزية لكتاب الشيخ الهندي، وقد التقطها ديدات وانكب عليها يقرؤها بنهم فوجد فيها الإجابات التي كان يبحث عنها وأكثر.
وكانت هذه نقطة انطلاق الداعية الجنوب أفريقي الذي كان كتاب “إظهار الحق” أول معلّم له في مسيرته الطويلة التي طاف خلالها بلدان العالم، وخاض مناظرات مشهودة تركت أثرا كبيرا حتى اليوم.
ومن بين المعاصرين الذين تأثروا بهذا الكتاب، الدكتور سامي عامري العالم المتخصص في مقارنة الأديان والدراسات الكتابية، الذي يقول إن “إظهار الحق” كان سببا في تخصصه في هذا العلم.
ويروي عامري -في تسجيل مصور على يوتيوب- أنه كان ذات يوم في إحدى المكتبات فأراد أن يقرأ شيئا في مقارنة الأديان فلم يجد كتبا كثيرة في هذا الباب، لكنه لاحظ كتابا بعنوان “إظهار الحق”.
ويبين أن الكتاب أسره بمادته الغنية وأسلوبه الماتع، وغوصه في مباحث متعددة من السيرة النبوية إلى إعجاز القرآن وغير ذلك.
ويوصي عامري المسلمين جميعا -وحتى غير المتخصصين- بقراءة هذا الكتاب الجامع الذي يغنيهم عن قراءة كثير من الكتب في هذا الباب، حسب قوله.
ويقول أيضا إنه بالرغم من الثورة المعرفية الموجودة اليوم، فما زال هذا الكتاب هو أفضل ما ألف في الرد على شبهات المنصرين واعتراضاتهم على الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الوفاة
أقام الشيخ العثماني الهندي في مكة ولقب بنزيل الحرمين، وأسس مدرسة لنشر دعوته، وقد توفي ليلة الجمعة 22 رمضان المبارك 1308 للهجرة الموافق 1891 ميلادية، عن عمر ناهز 73 سنة، ودفن في المعلاة (مقبرة مكة المكرمة).