مقالات

أمنُ الكيان بين كاريش اللبنانية ومارين الفلسطينية بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

تدرك سلطات الاحتلال الإسرائيلي، السياسية والعسكرية والأمنية، أنها لن تتمكن من حماية حقول النفط والغاز البحرية، المنتشرة على امتداد الشواطئ الفلسطينية، بدءً من شواطئ قطاع غزة جنوباً، وصولاً إلى شواطئ فلسطين الشمالية المتاخمة للشواطئ اللبنانية، والتي يكتشف جديدها الغني يوماً بعد آخر، ويقدر مخزونها بمليارات الأمتار المكعبة من الغاز ومثلها من براميل النفط، بما يعني عوائد مالية بمئات مليارات الدولارات على مدى السنوات القليلة القادمة، الأمر الذي يفرض عليهم استخراجه وحمايته وتأمين بيعه وتصديره، وهو ما لا يبدو سهلاً دون تفاهماتٍ إقليمية واتفاقياتٍ مع دول الجوار.

تصف قيادة أركان جيش الاحتلال حقولها النفطية ومنصاتها العاملة في استخراج النفط والغاز، المعلومة المكان والمحددة الإحداثيات بدقة، أنها كالبطة العائمة، التي تتحرك ببطءٍ ولا تستطيع حماية نفسها، في الوقت الذي يسهل اصطيادها واستهدافها بدقةٍ متناهيةٍ، ولن تتمكن القبب الفولاذية وبساط الريح وغيره، ومضادات الصواريخ المختلفة، باتريوت الأمريكية والسهم الإسرائيلية وغيرها من حمايتها، وبالتالي فإن منع استهدافها من مختلف الجهات ضربٌ من الاستحالة، وفي الوقت نفسه فإن شركات التنقيب والاستخراج لن تتمكن من العمل في ظل أجواء من التهديد الأمني والعسكري في المنطقة، ما يفرض على سلطات الاحتلال فرض أجواء هادئة وآمنة لتشجيعها على التعاقد ومباشرة العمل.

نجحت حكومة الاحتلال في تأمين استخراج النفط والغاز من الحقول الشمالية، والتي هي ليست كاريش فقط، وإن كان حقلها هو عنوان الثروة النفطية البحريةوقمة جبل الجليد منها، وإنما هي سلسلة من الحقول والآبار النفطية الواعدة، التي يتطلع الاحتلال إلى استخراج نفطها وغازها بأمنٍ وطمأنينة، بعيداً عن أي تهديدٍ قد يوقفها أو يعطلها، ويبدو أن المحكمة العليا الإسرائيلية، التي ردت كل الالتماسات المعارضة بكف يد الحكومة ورفض مشروع اتفاق الترسيم، قد أيدت قرار الحكومة وشجعتها عليه، ومهدت السبيل أمام التوقيع عليه بصورة نهائية ورسمية.

بعد كاريش وربما قبلها ولكن بصمتٍ وهدوءٍ، التفت الاحتلال إلى قطاع غزة، الذي بشرت شواطئه منذ أكثر من عشر سنواتٍ بكمياتٍ كبيرةٍ من النفط والغاز المخزون في جوف شواطئه، غير بعيدٍ عن سواحله كثيراً، إذ ذكرت تقارير أمنية واقتصادية إسرائيلية أن حقل “مارين” الغني بالغاز يقع على بعد 36 كم من شواطئ قطاع غزة، وتشير أغلب الدراسات والصور الفضائية أن الحقل اقتصادي بامتياز، وأنه مرشح لاستخراج كمياتٍ كبيرة من الغاز، حيث يقدر مخزونه بثلاثين مليار متر مكعب، وهي كميات كافية لتغطية احتياجات المنطقة كلها، وتصدير الفائض عن الحاجة إلى الخارج، والاستفادة من العوائد في تطوير قطاع غزة على وجه الخصوص، وتوفير الخدمات الضرورية له.

تدرك سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن قطاع غزة يختلف عن لبنان، وأن المقاومة فيه متحررة من كثيرٍ من القيود التي تكبل المقاومة في لبنان، فقطاع غزة ليس عنده ما يخسره أبداً، وهو محاصر منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ومحرومٌ من الكهرباء، ومحطته الوحيدة التي تكاد تعمل بضعة ساعاتٍ يومية، تعاني من نقصٍ في الديزل اللازم لتشغيلها، فضلاً عن أنها محطة قديمة، وقدرتها الإنتاجية غير كافية، وتصنف على أنها مضرة بالبيئة، بالنظر إلى الدخان المنبعث من محركاتها الضخمة القديمة.

على خلاف التوقعات في لبنان، لا تستبعد سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن تقدم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على قصف حقل “مارين” ومنشآته، وضرب أي منصة قد تغامر وتتعاقد مع حكومة الكيان للعمل فيها، ويبدو أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي لا تنسى أبداً أن حقل مارين أقرب إلى قطاع غزة من أسدود وبئر السبع، لا تخفي مخاوفها من امتلاك بحرية المقاومة في غزة تقنياتٍ عالية وأسلحة متطورة، وقدرتها على تلغيم أهداف بحرية، مما سيجعل من الحقول النفطية ومنصات استخراج الغاز كمستوطنات الغلاف، التي لا تفتأ المقاومة تقصفها وتهدد أمنها، وتفقدها الاستقرار والقدرة على ممارسة الحياة الطبيعية الهادئة المطمئنة.

انطلاقاً من المخاوف والمطامع، وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي للتفاوض مع السلطة الفلسطينية والحكومة المصرية، لتطوير حقل مارين وخلق شراكة بين الأطراف الثلاثة للاستفادة من عوائد الغاز المتوقعة، ووافقت على المباشرة في إجراءات التنفيذ أملاً في أن يحقق قطاع غزة بعض المكاسب المادية المتعلقة بتحويل محطة توليد الكهرباء من وقود الديزل إلى الغاز الطبيعي، وأملاً في خلق آلاف فرص العمل لأبناء قطاع غزة، الأمر الذي من شأنه توفير أجواء آمنة ومستقرة لشركات التنقيب والإنتاج.

يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي باتت تدرك أن القوة لا تخلق الأمن، وأن الحروب والعدوان يزيد من قوة المقاومة ولا يضعفها، وأن الأدوات الخشنة قد أفادت المقاومة أكثر مما أضرت بها، وأن بيئتها التي لا تملك شيئاً تخاف عليه لا تفكر في الثورة والانقلاب عليها، أو التمرد عليها وعصيانها، أما في حال خلق آفاق اقتصادية كبيرة، وتوفير فرص عمل مغرية، وربط أمن واستمرار عمل المشاريع الإنتاجية ببعضها، فإن هذا من شأنه أن يضغط على قوى المقاومة، وأن يكبح جماح قادتها، ويمنعها من القيام بأي مغامرة أو المبادرة بأي عملٍ قد يزيد من كلفتها ويرفع فاتورة خسائرها.

 

بيروت في 24/10/2022

[email protected]

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق