منوعات
قصه وعبره : نصف الحصيرة -حين تكلم الصغير فنطق الضمير :

قبل مئة عام، في قريةٍ نائية تتوسد أطراف الجبال وتتنفّس من صدور الينابيع، كان يعيش رجلٌ يُدعى “الوالي مراد”، ولّته الدولة أمر القرية وبعض القرى المجاورة، فصار سيدها المُطاع، يُشار إليه بالبنان، ويُستشار في صغير الأمور وكبيرها.
لكن هذا الوالي، رغم ما حازه من سلطانٍ ومكانة، أخفق في أمرٍ هو أعظم من جميع المناصب، ألا وهو برّ والده.
كان والده شيخاً هرِماً قد أنهكته السنين، أشيب الرأس، منحني الظهر، بالكاد يقوى على الحركة، لا يملك من أمره شيئًا.
وكان مراد، رغم كل ما تربّى عليه من قيمٍ وأخلاق، يراه عبئًا على حياته، بل عارًا يلطّخ صورته أمام الناس، فتركه في زاويةٍ من زوايا البيت مهملاً، لا يسأل عنه، لا يطعمه بيده، ولا يغيّر له ملابسه، ولا ينظر إليه بعين الشفقة أو الرحمة، وكأنه لم يكن ذاك الرجل الذي ربّاه وسهر الليالي من أجله.
كان والد الوالي يُرمى على حصيرةٍ من قشّ خلف المنزل، تحت وهج الشمس الحارقة، دون ظلٍّ ولا غطاء، ولا حتى جرعة ماء تبلّ ريقه.
وفي هذا البيت، كان لمراد ابنٌ صغير يُدعى “حسان”، لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره. كان فتى ذكياً، لماحاً، يحمل قلباً طاهراً ونفساً لا تعرف القسوة.
وذات يوم، دُعي الوالي مراد لاستقبال كبار القرى الأخرى في منزله لعقد اجتماع هام. فاضطرب، وراح يعدّ الضيافة بأدق تفاصيلها، يطلب من الخدم إعداد الأطعمة، ومن النساء ترتيب المجلس، وكان يركض من مكان إلى آخر، لا يكاد يلتقط أنفاسه.
وأثناء هرولته في باحة البيت، تعثر بوالده الضعيف، فسقط العجوز أرضًا وتأوّه بصوتٍ بالكاد يُسمع، ورفع إليه عينين دامعتين فيهما رجاء وصبر.
نظر الوالي إلى أبيه لبرهة، ثم صرف وجهه بجمودٍ وقال بصوتٍ عالٍ:
“حسّان! تعال يا بني، ساعدني في حمل جدّك إلى خلف المنزل، لا نريد أن يراه الضيوف!”
جاء حسان متردداً، وعيناه تلمعان بشيءٍ لم يفهمه الأب. ساعد والده في حمل الجد، ووضعه على الحصيرة القديمة، ثم قال فجأةً:
“انتظر يا أبي، سأذهب لأحضر شيئاً.”
أسرع إلى الداخل، ثم عاد يحمل سكيناً صغيراً، وجثا على الأرض، وبدأ يقطع الحصيرة إلى نصفين. وضع أحد النصفين تحت جسد الجد الضعيف، ورفع النصف الآخر، ولفّه بعناية.
تفاجأ الوالي وقال بانزعاج:
“ما بالك يا حسان؟! لِمَ قطعت الحصيرة؟ وماذا تنوي أن تفعل بالنصف الآخر؟”
نظر إليه الصغير بعينين ثابتتين وقال:
“احتفظت به، حتى إذا كبرت وضعفت، أضعك عليه يا أبي… كما وضعت أنت جدي الآن.”
تجمّد مراد في مكانه، كأن الزمان توقف، وكأن كل ما فعله مرّ أمامه كشريطٍ يقطّع قلبه ألماً.
قال بصوتٍ متهدّج:
“من… من علّمك هذا الكلام؟”
قال حسان دون تردد:
“أنت… أنت علّمتني يا أبي! بفعلتك مع جدّي. فأنا ابنك، وما تفعله أنت اليوم، سأفعله غداً. أليس هذا ما علّمتني إياه؟”
وقع الوالي على ركبتيه، وشهق شهقةً هزّت صدره، ثم زحف نحو أبيه، واحتضنه وهو يبكي بكاءً حارًا، وقال:
“سامحني يا أبي… سامحني. لقد غرتني الدنيا، ونسيت من كنتَ لي. أنت من علّمني المشي، من أطعم فمي، من سهر الليالي حين مرضت. كيف نسيت كل هذا؟!”
لم ينبس الأب العجوز ببنت شفة، فقط سالت دموعه بصمت، كأنها تشكو لله ما فعل به الزمن والولد.
وقف مراد فجأة، وقال لحسان:
— “هيا يا بني، اغسل معي جدّك، وألبسه أجمل ثيابه. يجب أن يراه الضيوف كما يليق به.”
وبالفعل، غسل جسده، وغيّر ثيابه، وقصّ له شعره، وطيّب ثوبه بالعطر، وأجلسه في صدر المجلس، وطلب من الجميع أن يُكرموه بالسلام والاحترام.
دخل الضيوف، فقام مراد بينهم قائلاً بصوتٍ متهدّج ودموعه لا تزال على خديه:
“أيها السادة، هذا والدي… فخر بيتي وأساس ما وصلتُ إليه اليوم. سامحوني إن أسأت يومًا أمامكم، فإن البرّ بالوالدين لا يعلو عليه شيء، ولا يساويه جاه ولا سلطان.”
وانهمرت دموع الجميع، وأثنوا عليه، وقال أحدهم:
“من يتعلّم من ابنه، فهو أعظم الناس.”
العبره :
ربما قسونا على آبائنا يومًا من الأيام بكلمة، أو بنظرة، أو بإهمال… لكنّ هؤلاء هم من صنعوا منّا ما نحن عليه اليوم. لا تنتظر أن تتعلّم الدرس من ابنك، كما فعل مراد. ولا تنتظر أن تندم حين لا يُجدي الندم.
برّوا آباءكم، قدّموا لهم الحب، قبل أن تندموا على حصيرةٍ لم تُقسم بعد.
عرفه محمد رمضان