مقالات
(هبة القدس والرؤية الاستراتيجية المستقبلية لتحقيق المشروع الوطني)
بقلم أ.د مانويل حساسيان سفير فلسطين لدى مملكة الدنمارك
لا يمكن للتاريخ المعاصر أن يغفل حقيقة التطور الدراماتيكي لصراعنا مع الكيان الصهيوني الاستعماري، والذي عمل لاكثر من عشرة عقود على اتباع كافة الوسائل لترسيخ هذا الاستعمار، والذي من خلاله سلبت الأرض الفلسطينية واقيمت على أراضيها ما يسمي دولة اسرائيل. إن هذا الاحتلال تسبب بنشوب أطول صراع في التاريخ المعاصر، وأصبح الاحتلال الوحيد المتبقي في القرن الواحد وعشرون دون حل جذري، لكن للأسف إن الماكينة الاعلامية للصهيونية العالمية، إستطاعت أن تخترق ضمائر وعقول المجتمع الدولي من خلال تزييفها الحقائق والترويج للأكاذيب المبنية على الروايات الدينية التي لا وجود لها في القواميس البشرية، وأن تبريراتها بإعتمادها على النصوص التوراتية لرجوع اليهود الى أرض الميعاد، مجرد أكاذيب وأساطير لا يوجد لها أي أساس ديني أو علمي أو حتى منطقي، ولا تتعدى كونها غسل عقول المجتمع الدولي، لتبرير سياسة الاحتلال من خلال ترويجها الرجوع الى ارض صهيون كما يدعون، لذلك لقد حان الاوان للضمير العالمي أن يتحرك وأن ينهي هذا الاحتلال الغاصب.
ما شاهدناه مؤخراً خلال الجولة الاخيرة لهذا الصراع، وزخم المقالات في الصحف البريطانية والعالمية التي تظهر التحول الهائل في الرأي العام الدولي بإتجاه دعم فلسطين، والذي بدوره شكل زلزالاً مدوي إهتزت على أثره صورة اسرائيل، وكشفت وجهه الحقيقي أمام الرأي العام الدولي، ويعود الفضل بذلك للجيل الجديد الشاب المتحصن بالدراية والمعرفة والادوات المهنية لينجح بتغيير الصورة النمطية لشعب فلسطين ونضاله الوطني.
لقد اثبتت الهبة الأخيرة في فلسطين بأن في الإتحاد قوة، لكونها كانت تشمل الداخل والشتات من أبناء الشعب الفلسطيني، مما اربك الكيان الصهيوني في كيفية التعامل معها، لذلك بات المجتمع الدولي والفضل يعود لوسائل التواصل الإجتماعي وشاشات التلفزة، على دراية بزيف ديمقراطية إسرائيل، واستطاعت أن تيين الوجه القبيح لنظام الفصل العنصري الاسرائيلي (Apartheid)، مما احرج الولايات المتحدة في مساعيها المستمرة في الدفاع السافر عن هذا الكيان الذي ثبت فشله في ردع الهبة، وتعامله معها عسكرياً بقسوة لا مثيل لها، فقد سقطت ورقة التوت وبات واضحاً للعالم بأسره استبداد هذا الكيان بالشعب الفلسطيني دون حسيب أو رقيب، كما أن حكومة نتنياهو فشلت في تبرير سياساتها العنصرية، ومحاولتها الظهور أمام العالم كأنها الضحية ونحن الجلادون، الا أنه بات واضحا وجلياً بأن هذا الكيان هو إستعماري هدفه التخلص من الشعب الفلسطيني وإحتلال أراضه على مرأى ومسمع المجتمع الدولي، خصوصاً بعد ما تم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي والبث المباشر عبر وسائل الاعلام الدولية التي نشرت وبثت شراسة ووحشية هذه الهجمة على شعبنا الذي يرزخ تحت ظلم الإحتلال لعقود عديدة وبات من الصعب تبريره، لذلك أصبحنا نرى التحول الطفيف في الموقف الأوروبي تجاه الصراع، وأصبحنا نرى كيف أصبح هناك نقد لسياسات هذا الكيان الغاصب، الا انه لا تزال هذه المواقف خجولة جداً وغير كافية.
ولأول مرة نشهد تحرك سياسي دبلوماسي للولايات المتحدة مكثف، والتي بدورها أحرجت أمام العالم في الدفاع عن سياسات الفصل العنصري، نتيجة الحراك الشعبي وفضح ممارسات الاحتلال، فلذلك يجب أن يترجم هذا الإحراج على أرض الواقع بسياسة أمريكية برغماتية من أجل مواقف جادة تخدم عملية السلام ويجب علينا أن نستثمر هذه المتغيرات سياسياً ودبلوماسياً، وخلق واقع جديد بمنهجية عقلانية وبراغماتية لكي نحقق أهداف مشروعنا الوطني، خصوصاً بعد أن أصبح الكونجرس الأمريكي مخترقاً نوعاً ما بوجود وتشكل لوبي فلسطيني ضاغط مع لجان التضامن الامريكية، ناهيك عن ممثلين في الكونجرس من أصول فلسطينية ودورهم المميز في الدفاع عن قضيتنا العادلة، والدعم السافر لإسرائيل لم يعد مبررأً بترسانة عسكرية داعمة إلى هذا الكيان الصهيوني، حيث بدأت أصواتاً تعلوا داخل الرأي العام الأمريكي، ولا مفر للرئيس بايدن إلا أن يعيد حساباته في الدعم السافر لنظام أتبت أنه مارق ولا جدوى لوجوده في الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فقد أصبح عبثاً سياسياً وإقتصادياً، وهي تعد البداية لعملية تغيير جذري وقرآءة مستفيضة حول التطورات الدراماتيكية التي أحدثت تغيير نوعي في الرأي العام الدولي، ظهرت هناك أصوات داخل المجتمع اليهودي ايضاً في أمريكا، والتي بدورها أنسلخت كلياً عن هذا الكيان الذي بات واضحاً في سياساته الهمجية في قمع الفلسطينيين العزّل.
لقد أقرت مؤسسات حقوق الإنسان بأن هذا الكيان يمارس نظام الفصل العنصري بشكل واضح وغير قابل للشك، وأصبح من الضروري أن تتبلور سياسة ضاغطة لاحداث تغيير شامل لهذا الوضع المزرى للشعب الفلسطيني والتخفيف عنه بطش الاحتلال، وضرورة تطبيق قرارات الأمم المتحدة، ولا مجال لهذا الكيان أن يكون فوق القانون الدولي والإنساني، ويجب أزالة جميع المستعمرات الصهيونية، وأرجاع أراضيها لأصحابها الشرعيين، ولم يعد هناك مجال لأي تسوية سياسية دون إزالتها ودحرها، فقد استطاع الفلسطينيون بالعزيمة والثبات ورباطهم وصمودهم الأسطوري أن يصنعوا التاريخ، فالقدس هي لب الصراع، وأخطاء هذا الكيان بأعتقاده بأنها لقمة سائغة له، فقد أثبت المقدسيون بأنهم أهلا للدفاع عنها وعن مقدساتهم وقت الشدائد، رغم أن الجرائم الاسرائيلية ما زالت مستمرة بحق شعبنا الفلسطيني، بأبشع الصور من خلال التنكيل وبزج الشباب في السجون والمعتقلات بشكل همجي، الذي لا يمكن وصفه سوى أنه يمارس سياسة أحتلال مارقة تشبه ما قبلها عبر التاريخ.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما بعد هبة القدس والضفة وأهلنا في الخط الأخضر ودمار غزة، ما هو المطلوب فلسطينياً الآن للتعامل مع هذه المتغيرات الدولية والإقليمية؟ وكيف نستطيع أن نوظفها والبناء عليها في إعادة حقوقنا المسلوبة والوصول للتحرير؟
إن ترتيب البيت الفلسطيني أصبح ضرورة ومطلباً جماهيرياً ينادي به الجميع لدحر هذا العدو الغاشم، وضرورة أن تتوقف الإنسلاخات والتشرذمات السياسية في داخل الوطن، بغض النظر عن الفروقات الأيدولوجية والبرامج السياسية المختلفة، علينا جميعاً أن نعي بأننا في خندق واحد، وهدفنا واحد وهو دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، لقد حان الوقت للتوقف عن السجالات والمزايدات السياسية، ورص الصفوف الوطنية في مواجهة العدو الصهيوني الذي لعب ويلعب دوراً رئيسياً في شق صف الموقف الوطني وشرذمته، فمن المهم إعادة ترتيب البيت الداخلي، وإعادة النظر في البرامج السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لتتوائم مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية وإدراج جميع القوى والفصائل الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية بإستراتيجية متوافق عليها كونها الممثل الشرعي والوحيد المعترف به للشعب الفلسطيني.
ان إزالة الأجندات السياسية الفئوية مطلب رئيسي، والتي بدورها استغلت لمصالح باتت واضحة لضرب المشروع الوطني، لا مجال للشرذمة ولا مجال للمصالح الفئوية، الانتماء يجب أن يكون للأرض والوطن، والمحسوبيات يجب أن تزال، وأن نكون ملتزمين بالخط الوطني دون إعطاء فرصة للأجندات الإقليمية لتستغل قضيتنا العادلة، كفى لإستغلال مقدرات شعبنا، كفى للسيطرة على عقولنا، كفى لتحريف البوصلة والتي تخدم فقط عدونا، يجب إسكات أصوات النشاز وأن نصحح ما برز من أخطاء استراتيجية لنكون في بر الأمان.
هو ليس جلد للذات، وإنما النقد الذاتي مطلوب في هذه المرحلة العصيبة، حتى لا تذهب دماء شهدائنا الأبطال وأسرانا في المعتقلات والزنازين سدى، ناهيكم عن جرحانا البواسل، لابد من توظيف كافة المكتسبات وان تترجم بأفعال على أرض الواقع، منذ اتفاقية أوسلو ولغاية الآن ركز الكيان الصهيوني على قدراته العسكرية في قمع الفلسطينيين ولم يعمل من أجل عملية السلام، ويعمل على فرض يهودية الدولة بدلا من التسوية السياسية مع الفلسطينيين.
التفاؤل وحسن النوايا مهد الطريق إلى صراع مفتوح على كافة الجهات دون بصيص أمل لتسوية النزاع وليس لإدارتها، وأن هناك محاور أساسية تصور هذا الصراع وتعقّد الأمور بشكل لامجال لمفاوضات وتسويات سياسية عملية، والسبب يكمن بأن الكيان الصهيوني بكل تشرذماته وموقفه العنصري أصبح عقبة أساسية في حل النزاع مع الجانب الفلسطيني والذي بدوره أيضاً يعاني من الانقسام ليس سياسياً فحسب، بل وجغرافياً، ناهيك عن فلسطينيين ال 48، وأخيراً العامل الديني الذي يعتبر الأساس في تفجير الصراع، إذاً المسألة في غاية التعقيد والحل يكمن بصياغة الأولويات والخوض في حيثيات التناقض والإسراع في إيجاد حلول فلسطينية لرص الصفوف ومعالجة الفوضى المنظمة داخل المجتمع الفلسطيني السياسي والمدني والقفز عن الانتهازية والمصالح الفئوية للمصلحة الوطنية، والتي أصبحت مطلباً أساسياً لوحدة شعبنا، لا مجال الخوض في ميكانزميات الشرذمة والتفرقة، لان عواقبها كانت وخيمة في السنوات ال 13 لشعبنا الذي عانى الأمريين من هذا الانقسام والانشطار السياسي المغلف بفكر ضيق ومتعصب، لأن القاسم المشترك يجب أن يكون مبني على استراتيجية سياسية وتفاوضية واضحة المعالم مستندة الى الحق الشرعي القانوني الدولي ومقاومة شعبية سلمية بكافة أشكالها، نابعة من نظام سياسي مكتمل المعالم واضح الرؤية، وهذا يتطلب المزيد من الصبر وبناء المؤسسات التنظيمية والتعليمية والاقتصادية، ومؤسسات بحثية مبنية على افق علمية ونظرة ثاقبة الى تحديد الأولويات لوضع خطة نتبناها لخوض معركتنا التفاوضية والسياسية والدبلوماسية، لأن هنا المنطق يحرج المجتمع الدولي ويزيل صفة الإرهاب عن شعبنا، ويضرب بعرض الحائط مقولات إسرائيلية بانها تدافع عن نفسها.
جرم هذا الكيان اصبح جليا للمجتمع الدولي والتغيرات المستمرة في تقيم الأوروبيين والامريكان لسياسة هذا الكيان، يجب ان يستغل كورقة ضاغطة من خلالها نستطيع ان نؤثر في الراي العام الدولي المنحاز لإسرائيل لعقود طويلة، نعم لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، يجب الوقوف بجدية حول مسألة ما بعد القدس وغزة والضفة وأهلنا في ال 48، هل ندع الرياح والعواصف ان تزول دون مراجعة دقيقة لإستثمار انجازات المعركة وليست أنجازات الحرب بان نعلن الانتصار، الانتصار يكمن في دحر الاحتلال وإقامة دولتنا العتيدة على الأرض الفلسطينية وارجاع حقوقنا المشروعة في حق تقرير المصير.
المطلوب عمله في هذه المرحلة:
1- بات من الضروري ومطلب شعبي ادانة التعصب الذي يثير الفتن ويؤجج الصراع الداخلي الفلسطيني من كافة القوى الفصائلية في م.ت.ف، من خلال وضع حد لكل اصوات النشاز، والعمل على انهاء الانقسام بشل جدي وجذري.
2- ترتيب البيت الفلسطيني وجبهته الداخلية لدعم المشروع الوطني ووضع حد لكافة التجاوزات والتيارات المعادية التي تحرف البوصلة عن المشروع الوطني.
3- تفعيل وتطوير كافة مؤسسات م.ت.ف وتعزيز دورها السياسي النضالي خلال المرحلة المقبلة.
4- تفعيل دائرة شؤون المفاوضات ودعمها بالكامل لترتيب اوراق التفاوض لتمكينها من الدفاع عن حقوقنا المشروعة.
5- تفعيل دور المؤسسات في السلطة الوطنية، وان يكون هنك محاسبة ورقابة لإصلاح النظام الاداري والمالي، وتعزيز مكانتها.
6- اعطاء دور أكبر للمثقفين والعلماء في وزارة الثقافة لبلورة فكر فلسطيني سياسي وتاريخي، لسرد الحقائق والتأثير اعلامياً على المجتمع الدولي، وأظهار الرواية الفلسطينية
7- اعطاء الحوافز للقطاع الخاص في عملية التطور الاقتصادي وبناء الهياكل التنظيمية والبنية التحتية لتتلائم مع المتغيرات الموضوعية.
8- تفعيل المؤسسات الاجتماعية ومنها حقوق المرأة والطفل لبناء مجتمع تكافلي لمفهوم الضمان الاجتماعي والاحوال المدنية.
9- تطوير الابحاث في التعليم العالي والجامعات الفلسطينية، ودعم ابحاثها العلمية في دعم وزارة التنمية والتخطيط.
10- تطوير برامج البحث العلمي واحداث تغييرات تتلائم مع التطورات الموضوعية الذاتية لعملية التطور الطبيعية في كافة المجالات التنموية والاقتصادية.
11- اين دور فتح الريادي الذي تعودنا عليه من كل هذه التغيرات وموقفها في النقد الذاتي بهدف تركيزها على المشروع الوطني، لقد حان الوقت لتقيم دورها الفعال وبلورة رؤيتها السياسية تماشياً مع المتغييرات في الظروف الموضوعية، ووضع برامج ملائمة ومكملة من أجل احداث تغيير جذري وجوهري.
12- صراعنا هو صراع وجود وليس صراع حدود، وحان الوقت لصياغة برنامج نضالي وبنيوي لتعبئة الفراغ الذي استفحل في مجتمعنا الفلسطيني وخلق حالة الاغتراب والاستلاب.
13- أصبحت الحاجة ملحة اليوم لبلورة رؤية جديدة واستراتيجية عملية لنيل حقوقنا المشروعة، ولرسم ملامح متطورة للنظام السياسي والفكري الفلسطيني.
لذلك يجب عدم التقاعص في تنفيذ هذه التوصيات، التي بدورها ستخلق واقع جديد لديمومة المشروع الوطني وللخروج من معضلات هذه الازمات الحالية التي بدورها تعيق تنفيذ مخططنا في ازالة العوائق وتنفيذ برامجنا السياسية.
وفي الختام، كلمة قصيرة للمطبعين مع هذا الكيان الصهيوني العنصري، لقد اثبت شعبنا من خلال صموده الشجاع، ان كل المحاولات لتصفية القضية الفلسطينية باءت بالفشل، ويجب اعادة سياساتهم للمفاهيم الصحيحة بأن المحتل هو الغاصب، وان الشعب الفلسطيني باق وسيقاوم من خلال كافة الوسائل المتاحة له، وان هذه السياسات لا تخدم سوى مصلحة ضيقة مفادها تقزيم قضيتنا العادلة والمستقبل هو الحكم.
* أما الهدف من هذا المقال، ليس للتجريح ولا النقد السلبي أو شخصنة الامور، وانما من باب الحرص على مواقفنا الوطنية وتصحيح المسارات للوصول إلى نتائج إيجابية في إعادة البناء والاصلاح وتصويب البوصلة نحو المشروع الوطني وأهدافه دون شوائب.