الرئيسيةشعر وشعراءمقالاتمنظمة همسة سماء

قراءة نقدية لقصيدة ” مع الله ” بقلم : الأستاذ/أبوبكر الصديق الفيضي الندوي كاسركود، كيرلا- الهند

قراءة الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية

                       مع الله

(قصيدة ميمية في المناجاة مع الله في بحر الطويل-فعول مفاعيل فعول مفاعل- تشتمل على عشرين بيتا)

أُناجيكَ يا رَحمنُ كُن لي مُراعِيا
وخُذني إلى ظلِّ السعادةِ غانِما

لقد طال مُكثِي في الحَرور ولا ليا
سِواكَ رجاءٌ في الخلاص مُسلِّما

كثيرُ الذنوب والقليلُ بِضاعةً
تَخبَّطَ عُمري حائرا ومحطَّما

أسيرُ الأَماني والغُرورُ يَقودُني
ترفَّعتُ غَيرِي في المجالِسِ ظالِما

وصرتُ أَتِيهُ في الغياهِبِ حائرا
بلا مُرشدٍ يا لهفَ نفسي مُضرَّما

أضعتُ حياةً ذاتَ هدفٍ وقيمةٍ
بلا فكرة العُقبٰى جريحا مُتيَّما

يُخيَّلُ لي الأوقاتُ تَمضِي لمُهلة
ويُمكنُني فيها التراجعُ نادما

أرى الوقتَ يلمعْ كالبريق بسرعة
يدَعْني بآلام ويَمضِي مُحكِّما

تأمَّلتُ في الدنيا ولذّاتِ عَيشِها
سَرابٌ يُضِلُّ العقلَ يُغريه حالِما

تَعمَّقتُ في بحرِ المعاني وخُفيةٍ
أَجوبُ المياهَ مَوجَها مُتقدِّما

وجدتُ تصاريفَ الحياةِ تَعاقَبُ
مُرورَ الليالي والنهارِ مَعالما

ظَلامٌ ونورٌ او سهولٌ ووهدةٌ
حَرورٌ وظلٌّ لا تراها مسالما

ومن يُمضِ دهرا في الدُنا صار ناضجا
قويّا بأنواع التجارُبِ حازما

وجدتُ الرخاءَ لا يَدومُ لصاحبٍ
ولا الهمُّ يَبقَى في الحياة مَداوَما

ومن يغتَررْ مِمّٰا يَرَى من نُعومة
ولونٍ بَريقٍ للحياة تَندَّما

حياةُ الفتَى تَمضي بِلَونٍ وطعمِها
بدونِ شعورٍ في التعاقب هائِما

زمانُ الصبا يَجري بأَحلَى مَذاقِه
شبابُ الفتَى أيضا سريعا مزاحما

إلهِي إلهَ العرشِ كُن لي مُسانِدا
وليّا كَفيلا للمحاسنِ داعما

تُكفُّرْ خَطيئاتي وتُمحِي مَزلَّتِي
تُسدِّدُ خَطَواتي مُعافا مسلَّما

ولا حول لي حالا ولا قوةً ليا
زِمامُ الأمورِ في يدِ اللهِ دائما
*******************************
بقلم : الأستاذ/أبوبكر الصديق الفيضي الندوي
كاسركود، كيرلا- الهند

قراءة نقدية في قصيدة “مع الله”

مقدمة

تُعدّ قصيدة “مع الله” من النصوص الوجدانية العميقة التي تعكس تجربة روحية صادقة تجمع بين الاعتراف بالذنب، والتأمل في طبيعة الحياة، والرغبة في العودة إلى الله. ينتمي النص إلى شعر المناجاة، وهو لون شعري عرفه التراث العربي منذ أقدم العصور، حيث يشكو الشاعر حاله ويستمد من الله العون والقوة.

جاءت القصيدة على بحر الطويل الذي يتسم بالوقار، وبقافية الميم المضمومة (ـما)، مما أضفى على النص وحدة موسيقية هادئة تتناسب مع طابع المناجاة.

أولًا: التحليل الموضوعي

1. محور التوبة والاعتراف بالذنب

يفتتح الشاعر النص بمناجاة حارة، مستجديًا رحمة الله، قائلًا:

أُناجيكَ يا رحمنُ كُن لي مُراعِيا / وخُذني إلى ظلِّ السعادةِ غانِما

ويستمر في إظهار ضعفه وانكساره أمام ذنوبه:

كثيرُ الذنوب والقليلُ بِضاعةً / تَخبَّطَ عُمري حائرا ومحطَّما

هذا الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الله يشكّل لبّ التجربة الروحية في النص، حيث يبرز الشاعر إنسانيته في أبهى صورها.

2. الوعي بالوقت وضياع العمر

يتأمل الشاعر مرور الوقت سريعًا، فيصور الزمن كوميض برق خاطف:

أرى الوقتَ يلمعْ كالبريق بسرعة / يدَعْني بآلام ويَمضِي مُحكِّما

هنا ينقل الشاعر إحساسًا فلسفيًا بأن العمر مهما طال فهو قصير، وأن لحظات التوبة يجب ألا تؤجل.

3. زيف الدنيا وتقلبها

في محور آخر من النص، ينتقد الشاعر الدنيا وملذاتها الخادعة، فيقول:

تأمَّلتُ في الدنيا ولذّاتِ عَيشِها / سَرابٌ يُضِلُّ العقلَ يُغريه حالِما

ويواصل الحديث عن تقلبات الحياة:

ظَلامٌ ونورٌ أو سهولٌ ووهدةٌ / حَرورٌ وظلٌّ لا تراها مسالما

بهذه الصور البلاغية يبيّن الشاعر أن الحياة لا تستقر على حال، وأن من يدرك هذه الحقيقة يزداد وعيه ونضجه.

4. النهاية بالدعاء والرجاء

يختم الشاعر قصيدته بالتضرع إلى الله طالبًا الغفران وتثبيت الخطى:

إلهِي إلهَ العرشِ كُن لي مُسانِدا / وليّا كَفيلا للمحاسنِ داعما

تُكفِّرْ خَطيئاتي وتُمحِي مَزلَّتِي / تُسدِّدُ خَطَواتي مُعافى مسلَّما

ويؤكد أن زمام الأمور بيد الله وحده، في تكرار لإيقاع التواضع والتسليم.

ثانيًا: التحليل الفني

1. الوزن والقافية

اعتمد الشاعر بحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن)، وهو بحر قوي يناسب الموضوعات الجادة والوجدانية. أما القافية (الميم المضمومة) فقد منحت النص وحدة صوتية محكمة وإيقاعًا متدفقًا.

2. اللغة والصور البلاغية

اللغة فصيحة تميل إلى الألفاظ القرآنية والجزلة، مثل: العقبى، خطيئاتي، المُعافى.

وقد وظّف الشاعر عدة صور بلاغية، أبرزها:

  • التشبيه: أرى الوقت يلمع كالبريق بسرعة.
  • الاستعارة: تخبّط عمري حائرًا ومحطَّما.
  • التضاد: ظلام ونور، حرور وظل.
  • الكناية: زمان الصبا يجري بأحلى مذاقه (كناية عن سرعة مرور الشباب).

هذه الصور لم تكن زخرفية، بل جاءت لتكثيف المعنى وتعميق التجربة الشعورية.

3. العاطفة

القصيدة مشحونة بعاطفة صادقة من الندم والخوف والرجاء، وهي عاطفة شخصية، لكنها تتجاوز الفرد لتلامس الوجدان الإنساني العام. يبدأ النص بصرخة ألم وطلب للعون، ثم ينتقل إلى التأمل في الدنيا وزيفها، ليعود في النهاية إلى روح التسليم والاطمئنان.

3: القيمة الفكرية والروحية

تعكس القصيدة فكرة محورية هي أن الحياة قصيرة وزائلة، ولا سعادة حقيقية إلا بالقرب من الله. وهي رسالة أخلاقية وفلسفية تدعو القارئ لمحاسبة نفسه، وإدراك قيمة العمر قبل فوات الأوان.

4: الملاحظات النقدية

من أبرز مواطن القوة في النص:

  • صدق العاطفة ووضوح الفكرة.
  • سلامة اللغة وجزالة الألفاظ.
  • انسجام الإيقاع مع الموضوع.
    لكن يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات:
  • تكرار بعض المعاني (مثل سرعة الوقت وزوال الدنيا) في أكثر من بيت كان يمكن اختزاله لتكثيف النص.
  • بعض التراكيب تحتاج إلى مرونة أكبر، مثل قوله: لقد طال مكثي في الحرور ولا ليا، حيث جاء التركيب متكلفًا قليلًا.

خاتمة

قصيدة “مع الله” نص شعري وجداني يتسم بالعمق الروحي والصدق العاطفي. استطاع الشاعر أن يمزج بين الحكمة والفلسفة وبين حرارة الإحساس، مع الحفاظ على بناء شعري محكم. إنها قصيدة تنتمي إلى تيار الشعر الروحي الذي يذكرنا بمناجاة المتصوفة والزهاد في التراث العربي، حيث يتحول الشعر إلى وسيلة للتطهير الداخلي وطلب الصفاء النفسي

إغلاق