مقالات
اللّغةُ الشّاعرةُ وبُعدُ الحداثة؛ بناءُ الرّؤية الشّعريّة في رحاب سعيد عقل (نماذج من شعره في مرايا التّجديد).
د. سوزان محمّد زعيتر، ناقدة وباحثة/ الجامعة اللّبنانيّة.

الصورة البارزة للتعبير
ملَخّص الدّراسة:
إنّ الشّعر كسائر الأجناس الأدبيّة الأخرى، يمتلك في تَضاعيفه دلالات اجتماعيّة لكنّها دلالات قد تتخطّى زمانيّتها، بما يستضيفه عبرها من روح الحقائق والنّفاذ إلى آفاقٍ جديدةٍ، على مدى قدرته التّجديديّة الرّافضة لكلّ ما هو ثابت، ومستقرّ، ومُبتذل، وجامدٌ، في عمق ما فيه من تاريخٍ، وفلسفة، ودين. إنّ النّقلة الحضاريّة قد استَوْفَدَت إلى الشّعر انعطافات جديدة، ومن ضمنها نشوء القصيدة الغزليّة المستقلّة.
وأن يكون الشّعر “تعبيرًا عن حالةٍ”؛ يعني أنّ الشّعر هو إذًا ذلك المكان الشّعري الّذي يلعب فيه خيال الشّاعر، وهو أيضًا ذلك المكان المجازيّ الّذي يلعب فيه مُتَخَيّلٌ الشّاعر؛ وهو منَ البنىالفكريّةِ الّتي يطولها التّحوّلُ باطّراد؛ لأنّها السّبيل المخفِّف منْوطأةِ العالمِ القاتمِ المهدَّدِ بالتّغييرِ دومًا، لذا يظلّ في دوّامةِ تحوّلٍلِتمخُّضِهِ عنْ آليّاتٍ فكريَّةٍ يتوجَّبُ تناميها ثقافيًّا، استجابةً لمواكبةمحاولات النّهوضِ شعريًّا وخلقًا إبداعيًّا.
يُعدّ الشّاعر سعيد عقل من أبرز نماذج الكلاسيكيّة الجديدة الّتي تجمع الشّكل القديم إلى الرّؤيةِ الشّعريّة الجديدة القائمة على تجاوز الصّورة الكلاسيكيّة في حركتها، وأبعادها، ودلالاتها،وشموليّتها؛ إذْ يحتلّ سعيد عقل مكانًا بارزًا وحاسِمًا في تَنْقيةِ اللّغة الشّعريّة الّتي كانت سائدة قبله، وإيصالها بحدّ ذاتها إلى مدى جماليّ قصيّ، وذلك بالتّنامي الفكريِّ والمعرفيِّ الحرّالمؤسّس لوعي تجاوزيٍّ برؤيةٍ متناميةٍ متحوّلةٍ ديناميكيًّا تكشفُعنْ أفقٍ غير متناهٍ موازٍ لعمقِ تجربته الشّعريّةِ…
كلمات مفاتيح: التّجديد، الحداثة الشّعريّة، التّجاوز، الرّؤية، الرّمز، الصّورة الشّعريّة.
مقدّمة:
الشّعر هو الإبداع بحدّ ذاته؛ لأنّ الإنسان الشّاعر لا يستطيع التّعبير عن مشاعره، وبصور إبداعيّة خلّابة إلّا بواسطته (هلال، 1997م، ص361). وتُعدّ اللّغة الشّعريّة جزءًا من التّجربة الخاصّة؛ إذ تمثّل التّجربة البشريّة بهذا المعنى الوجه الثّالث للغة الشّعر(الورقيّ، 1984م، ص225).
سعيد عقل واحد من الّذين خدموا اللّغة العربيّة خدمةً جلّى، انتشَلَها من بحر الرّكود والجماد الّذي غرقت فيه طوال قرون عديدة؛ لأنّه استطاع أن يُعيد للكلمة الشّعريّة نارها الأولى، وإذا به يُثبّتها أنّها لغة التّخاطب مع الله، لغة الخلق والإبداع، بعد أن عمل فيها إزميله نحتًا ونَقْشًا، حتّى غدت الكلمة بين يديه لُجَيْنًا، ويرصفها كما يشاء، ويتلاعب بها، ويضعها حيث يريد، ويقدّمها، ويؤخّرها، ويزيدها، وينقصها، حتّى تأتي مُطابقة للمكان الّذي أوسَعَهُ لها، ويعود بعدها ليُهندس أرْوِقَتَها ويُجمِّل أعمدتَها. فإذا بالقصيدة كاتدرائيّة مُكتملة البناء، رائعة الجمال، غنيّة الجوهر. وهذا يعود إلى جهد سعيد عقل في الانكباب على أسرار اللّغة العربيّة، والغوص في بحرها لانتشال الثّمين من دُرَرِ الكلِمِ وجميلها (الحاج، 2000، ص213).
تتميّز لغته عن لغة شعراء مدرسة الإحياء الشّعريّ لانتمائها إلى الحداثة الجديدة؛ إذ أنّ لغته خاصّة به، وهو يتميّز بها عن كافّة شعراء عصره وقد أثّر في لغته الخاصّة هذه على شعراء كثيرين أتَوْا بعده. فللغته جماليّة متفرّدة بانتماء الكلمة السّهلة المرتبطة بصورة فيها كثيرٌ من الغرابة والدّهشة.
شعر عقل الغزليّ بعيد عن الألفاظ الوحشيّة والصّعبة، ولكنّها تتميّز برصفها مع أخواتها بما يخلق الدّهشة. وهو يُكوّن الصّورة في استعارة أو تشبيهٍ أو مجازٍ. ونستطيع القول أنّ ثقافة عقل الخاصّة به كثقافة بودلير الشّاعر الفرنسي، إذ لم تكن مقتصرة على ما كتبه من نقد للحركة التّشكيليّة المعاصرة له. بل دخلت في صلب كيانه الإبداعيّ وانعكست في بنيان الصّورة الشّعريّة لديه ما أدّى إلى خلق حالة التّكامل في شخصيّته الثّقافيّة في عصره(بيطار، 1993م، ص87). فكرّست موقعه الرّياديّ المتميّز في حركة الحداثة الرّمزيّة في الشّعر، والانطباعيّة في الفنّ التّشكيليّ.
عندَما نقرأ قصيدة «ألعيْنَيْكِ»، إنّنا لَنَرى فيها صاحبةَ العَيْنَين ونرى القمر الّذي يفرش الضّوء على التّلّ، فلا نَدري أيّهما استدعى الآخر، أالعَيْنانِ استَدْعتا ضوء القمر؟ أمْ أنَّ القمرَ الّذي يضحك للغصن، ويرتاح لضفّة النّهر ويترَفّقُ بالحجر هو الّذي استدعاهما؟ أمْ أنَّ الشّاعر سعيد عقل هو الّذي استدعى العَيْنَيْنِ والقمر، من خلالِ شعرهِ بفكرٍ مُغايرٍ ورُؤىً مُغايرة تمامًا لِمَنْ سَبَقَهُ من الشّعراء.
ففي هذه القصيدة الغزليّة، تتّخذ عنده موضوعًا مُوَحَّدًا ألا وهي التّغزّل بالعَيْنَين فيصف ويَصوّر جمال الأنثى بأبهى الِصّوَر حتّى وإنْ تفرَّعت عندَه الوحدة العضويّة للقصيدةِ إلى صُوَرٍ كبرى، فالصّورة المُجْمَلة الّتي يَتَغَنّى بها الشّاعر سعيد عقل هي صورة عَيْنَي المرأة.
إنّ من يقرأ دواوين الشّاعر سعيد عقل يدرك المحطّات الأدبيّة، بمراحلها المختلفة الّتي مرّ شعره فيها، نظرًا إلى تطوّر فكره، وارتقاء ثقافته المقرونة بالحريّة، وثورة أدبه وَفقًا لكلّ مرحلةعايشها خضعت لمقتضيات التّجديد بفعل مؤثّرات عصره وبيئته، من حيث الزّمان، والمكان، والأحداث السّياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، المتمثّلة ببواكير تطوّر قصائده وصولًا إلى مرحلة الخلق والإبداع والإحياء، بذلك تتحدّى الواقع السّائد آنذاك، وتتخطّاه إلى رؤى حداثيّة مستعينًا بقدرته الشّعريّة العالية،ومطوِّعًا خياله الخلّاق، وتمكّنه من تطويع اللّغة مستندًا إلى مخزونه المعجميّ؛ إذ انعكست بوضوح في عناوين قصائده حيث شملت مناسبات، وشخصيّات، ومواقف، وأحداث، وقضايا عاصرها في إنتاج صور شعريّة تتجاوز الماضي الموروث والحاضر إلى مستقبلات بديلة.
وعليه، تقف هذه الدّراسة على تجربة سعيد عقل الشّعريّة،وتتناول نقطتين أساسيّتيْن فيها، من خلال المنهج البنيويّ، هما:
أ- رؤية سعيد عقل الشّعريّة، وموقعه بين التّقليد والتّجديد.
ب- الصّورة الشّعريّة، ورمزيّة اللّغة.
إنّ اللّغة هي وسيلة التّخاطب ووعاء الفكر, بها ترتبط الأمّة وتتلاقى وتتوحّد على أساس قوّتها, فهي مُقوِّمٌ أساسٌ للهُويّة,والفكرُ عمليّةٌ متجدّدةٌ ومتطوّرةٌ إذا حُرّرت من الجُمود الّذي يمكن أن يطاله نتيجة آليّات وفاعليّات لا واعية تتحكّم بنا وتورثنا التّكرار والتّقليد. وعليه، يكون الفكر في موضع الأمان ما دام اختيار الموضوعات معتمدًا إضاءة الجوانب المظلمة، وصولًا إلى استحداث رؤى جديدة في سبيل النّهوض، وبذلك يبقى “الفكرُ هو الغاية ُالمنشودة”. والشّعر شبيه بالكائن الحيّ، ينمو ويتطوّر مع نموّ فكر الشّاعر وتطوّره.
يُعدُّ الشِّعر أقرب الأشكال التّعبيريّة إلى النّفس الإنسانيّة, فهو يُعبِّر عن لحظةٍ شعوريّة متميِّزة, وهو الصّورة الّتي تُبرز حقيقة الإنسان كإنسان وحقيقته كشاعر, لأنَّ “الشّاعر لا ينطق بالشّعر إلّا عندما يشعر بنفسه, وبما يُحيطُ به من طبيعة وكَوْنٍ زاخرَيْن بالجمال والجلال، ومملوءيْن بالأحداث والمناسبات الّتي تُلحُّ عليه وتدفعه إلى نظم الشّعر والنُّطق به” (غراب، 2007م، ص9). إنّه يستمدُّ الطّاقة الإبداعيّة في هذه الحالة من تجربةٍ شعريّةٍ خاصّة، ومرتبطة بذاته كإنسان واحتكاكه بوَسَطه الحياتيّ.
وممّا لا مِراء فيه، أنّ مشاعر الشّاعر وإحساسه يمثِّلان الجوهر في محاولته اكتشاف مكنونات الحياة وسبْر أغوارها, وتبعًا لهذا, “فلا يُمكن أن نتصوّر شعرًا خاليًا من عنصر التّصوير أو بمعنى آخر الصّورة الشِّعريّة”, وذلك اعتمادًا على التّصوّر والخيال. ويبقى الشّاعر المُعبِّر الوحيد عن رؤية خاصّة سواء إلى ما يحيط به أم ما يختلج في ذاته من تصوّرات.
وعليه, إنّ لغة الشّعر لا يمكن أن تنفصل عن تجربة الشّاعر ذاته وعن موقفه الشّعريّ؛ إذ تعدّ التّجربة الشّعريّة الأساس في بناء القصيدة الشّعريّة. ويبقى الشّاعر من أشدّ النّاس حساسيّةً وتأثُّرًا بما يجري حوله وفي داخله, فهو المؤثّر والمتأثِّرُ, وهو القادرأن ينفُذ إلى العالم من حوله, فيتغلغل في الخفايا, وينقلها بصدقٍ وإخلاص.
وعليه، إنّ موضوع دراستي هذه “سعيد عقل ورؤيته الشّعريّة؛ تجديد اللّغة وبناء الحداثة في نماذج من شعره“, يُقدّم المرحلة الثّقافيّة التّجاوزيّة للشّعر بين التّقليد والتّجديد؛ لتبيان رؤية عقلالشّعريّة في ضوء ثقافتها التّكوينيّة الّتي شكّلت حلقة وصل بين تراث العمالقة، والحداثة الكلاسيكيّة.
إشكاليّات الدّراسة المطروحة:
لعلّ الإشكاليّة المحوريّة الّتي يُثيرها هذا الموضوع هي:
وتثير هذه الإشكاليّة جملةً من الأسئلة:
لقد اعتمدتُ في هذه الدّراسة المنهج البنيويّ؛ لأنه يُسعفنا في معرفة البناء الشّعريّ عند سعيد عقل, من خلال الصّياغة والتّراكيب اللّغويّة, بأسلوبٍ يتناسب مع ثقافته. أمّا أهمّية الدّراسة فتتأتّى من مكانته الشّعريّة، ومواكبته أحداث عصره.
أ- رؤية سعيد عقل الشّعريّة، وموقعه بين التّقليد والتّجديد:
الثّقافة فعلٌ وتحريضٌ على الفعل، وتجاوزٌ إبداعيٌّ يُحدث تراكمًا إيجابيًّا، وخلق مشكلات باستمرار لمخالفتها السّائد أحيانًا كثيرة، وبذلك تبقى مستقبليّة بوظيفتها الكاشفة التّحريضيّة، وبإضافاتها الّتي لا تنتهي. فثقافتنا تضيء لنا معالم الطّريق، سواء أكانت نتاج الإرث الثّقافيّ المتحدّر إلينا، أم كانت وليدة احتكاكنا بالحياة تجربةً، وابتكارًا، وإبداعًا.
لقد لعبت العوامل السّياسيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة دورًا كبيرٍا في توجيه حركة التّطوّر الشّعريّ قديمًا وحديثًا، ما أجبر العقليّة العربيّة بإعادة النّظر في الموروث الأدبيّ، وإيجاد بديل ينسجم في رؤاه مع المتغيّرات الجديدة على السّاحة الأدبيّة، فمع كلّ ثورة اجتماعيّة تتبعها ثورة أدبيّة، (فالأدب يلتزم قضايا المجتمع، فيكون البذرة المولّدة للثّورة)، تتشكّل من خلالها ملامح أدب جديد، يمثّل مرحلة جديدة في حياة الأمّة. ولأنّ الشّاعر يؤمن بقضايا شعبه وأمّته تكون مهمّته خلخلة البنى المهترئة والتّطلّع نحو الأرقى وتخفيف غربة الإنسان المُحاصر بالتّقاليد البالية, وإلغاء المنافي الرّوحيّة, وخلق الأمل العنيد في الذّات البشريّة.
تُعدّ النّهضة بمفهومها الخاصّ حركة إحياءٍ وانبعاث, وتبدأ من التّراث لتتجاوزه, أمّا بمعناها الواسع, فهي عبارة عن ذلك التّطوّر القديم في جميع الآداب والفنون والعلوم, ويعود ذلك إلى التّغيير في أُسُس الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّينيّة والسّياسيّة.
فالنّهضة هي ارتقاء فنون الأدب شكلًا ومضمونًا, فقد شهد عصر النّهضة بوصفه حركة ثقافيّة ازدهارًا في الأدب, مُعتمدًا على الكلاسيكيّة في نُهوضه ونشأته؛ إذ يُعدّ جسرًا بين العصور الوُسطى والعصر الحديث. وهذه المرحلة من حياة سعيد عقل، تعدّ مرحلة مفصليّة، بين التّأرجح والاضطراب، وبين التّقليد والتّجديد. مرحلة خلّفتها الأحداث، وأوجدتها الظّروف المحيطة به، فضلًا عن استجاباته النّفسيّة، وتطلّعاته الأدبيّة نحو مرحلة جديدة، ولا سيّما أنّ بداياته الشّعريّة، وبيئته التّقليديّة، وثقافته الموروثة، أثقلت أعماقه من مشاعر، ولعلّ ذلك ليس من طبيعة الشّاعر الكلاسيكيّ”، بذلك نستطيع، أن “نترصّد الشّاعر في حقبته الضّيّقة والمهمّة معًا، الضّيّقة؛ لأنّها محدّدة ومضطربة، والمهمّة؛ لأنّها تنطلق من الذّات، فتتشكّل في انطلاقها صوتًا واضحًا للشّاعر”؛ لأنّ الشّاعر في هذه المرحلة ينتقل من العموم الّذي يمسّ ظاهر الأشياء إلى بواطنها، فيتناول الذّات الإنسانيّة في أروع صورها الصّادقة للتّعبير عن لواعجها، وبثّ الحمم المكبوتة في أغوارها بدافع الألم؛ لما له من فاعليّة في تكوين نفسيّة الشّعراء، وأثر بعيد في شعرهم، فهو يرقّ العواطف، ويرهف الإحساس، فتجعله مُتيقّظًا لأخفى المشاعر، مُتنبّهًا لأدقّ التّأثيرات، ويمتدّ به في نطاق رحب، يشمل وجوهًا من الانفعالات، متنوّعة خصبة، وقد يميط السّتار عن مواطن النّفس مكتومة كامنة، ممّا يُفجّر عيونًا صافية لشعر صاف، ويهدي الشّاعر إلى موارد جديدة ثرّة.
وهكذا, يتحوّل الشّعر إلى جدولٍ يتدفّق في صحارى الأرواح القاحلة, لأنّ “الصّحراء لا زمن فيها”, كما يقول غراهام غرين, فالأدب يصوغ الوجدان الجمعيّ ويُحرّضه, ويُنمّي الوعي بسبب اختمار التّجربة البشريّة في ذات الشّاعر وصُدورها عنه مصبوغةً بأحاسيسه, نتيجة انبثاقه من معاناة إنسانيّة واحتكاك خشن بالأشياء وانسكاب هذه المعاناة في صياغة فنّيّةٍ راقيةٍ. وذلك بالبحث عن معنى أفضل للحياة, بطريقة تجاوزيّة, وبمؤشّر باتّجاه المستقبل, لا باتّجاه الماضي الرّاكد.
كان سعيد عقل مُتميّزًا وفريدًا في محيطه العربيّ، ومختلفًا عنه تاريخيًّا وتقاليد وقيمًا، من خلال فنّيّته الخلّاقة، وقد جُمعت أعماله الشّعريّة والنّثريّة فيما يُسمّى بالأعمال الكاملة، وقد طُبِعت عدّة مرّات.
تتّخذ القصيدة عندَه موضوعًا مُوَحَّدًا وإنْ تفرَّعَتْ عنه صُوَرٌ أخرى ولكنّها تصبُّ في النّهاية في الصّورة المجملة الّتي يهدفُ إليها في قصيدته ذات الصّورة المجملة الكبرى ومن نماذج هذه الرؤية الشّعريّة نذكر قصيدةً لسعيد عقل بعنوان «مَوْطِنُ البُلبُل»يقول فيها:
|
غدًا إذا غَنيّتَ، يا بُلبلُ، |
|
وَرَقَّ للأُغنيةِ الجَنْدَلُ، |
|
وَمال للأَرْنانِ في أَيْكِهِ |
|
غُضْنٌ، وَأَلْوى جيْدَهُ سُنْبُلُ، |
|
وَقَرَّبَتْ مِنْ رَبْوَةٍ رَبْوَةٌ |
|
سَكْرانَةٌ، عَنْ حالها تَسْأَلُ، |
|
وَقيل: “من أين”؟ فَقُلْ: “جئتُ مِنْ |
|
عَيْنَيْنِ لا أَبْهى ولا أجْمَلُ. |
أوّلًا: تتجلّى في هذه الأبيات، الوحدة العُضويّة الّتي تختلف عن الوحدة العُضويّة عندَ أيّ شاعر آخر. فالفكرة الأساسيّة الّتي تدور حولها القصيدة هي وصف البلبل وتِبيان الوسائل الّتي أَمدَّتْهُ بجماله، والّتي استقاها من الطّبيعة الحالِمة الّتي تُحيط بهِ حتّى يصل إلى أرقى الحالات الّتي وَهبت البلبل هذا الجمال ويرى أنّه تَحَدَّر مِنْ عَيْنَي فتاةٍ جميلةٍ حيث لا يُحاكي جمالُ هاتَيْن العَيْنينِ حُسْنٌ آخرٌ في الدّنيا.
ثانيًا: تتفَرّعُ من الصّورة الكبرى في هذه القصيدة صُوَرٌ أخرى غزيرة وتخدم الفكرة الكبرى الّتي أرادَ الشّاعر أنْ يرسمها للبلبل ولِعَيْنَيْ حبيبته الجميلتَيْن والتّفرّعات تبدو كما يلي:
نرى تنوّع الطّبيعة في استحضار البلبل والرّبوة والسُّنبل وعَيْنَي الحبيبة، هذا التنوّع أيضًا كلّه يَصُبُّ في وحدةِ القصيدة وعَدَم تنافر الصّورة إذْ تشكّل كلّها مجتمعةً لَوْحةً نستطيع أن نَتَصَوّرَها مَرْسومةً أمامنا بلا تنافرٍ في خطوطها وألوانها وَحَرَكاتها.
التّناسق في هذه القصيدة واضح الخطوط والملامح؛ فالبلبلُ جزءٌ مُتناسِقٌ مَعَ الطّبيعة الجميلة، ومُتناسقٌ بجماله بِعَيْنَي الحبيبة الّتي تخرِّج هذا البلبلُ من جمالِهِما. ومتناسقٌ متكاملٌ مع الرّبوة الّتي تقتربُ من أختها بتشخيصٍ جميلٍ عالٍ وتَسألُ عن ذاتها بعدَ أن حَرَّكها هذا الجمال الآسِر، الأخّاذ، وتظلُّ كلّ هذه الأجزاء مُشَكِّلة الصّورة الكبرى للقصيدة رغم كلّ الجزئيّات الصّغيرة الّتي ذكرناها سابقًا.
وشاعرنا يلجأ إلى الغناء لتكملة إيحاء الصّورة الجميلة فغناء البلبل يَهَبُ الطّبيعة معنًى جماليًّا إضافيًّا، حيث يشترك الصّوت مع البَصَرَ في إبراز الجمال وتبيان ملامحه. إنّ مزج الصّوت باللّون، بالحَرَكة، يُكملُ جماليّة الصّورة الّتي رَمى إليها الشّاعر.
ثالثاً: لغة سعيد عقل الشّعريّة مختلفة عن لغةِ غيره من الشّعراء بتركيبها وإيحاءاتها. إنّه في مزج الصّياغة متميّزٌ عن غيره كثيرًا، حتّى لكأنّكَ تُميِّزُ شعره عن شعر غيره بمجرّد أنْ تقرَأ قصيدة له دون أن تعرف أنّها له أصلاً فحين نسمعه مثلاً يقول:
|
سَيْفٌ على البُطْلِ أَمْ شيماتُك الحُرُمُ |
|
-يا شِعْرُ خَلّدْ- وَسَيْفٌ ذَلكَ القَلَمُ (عقل، 1991م، ص43). |
الصّياغة المتفرّدة في هذا البيت واضحة وفي معظم شعره، فحين أرادَ أن يميّز المرثيّ بقصيدته هذه الشّاعر “شبلي الملاّط“، لقد جَمَع في بيت واحدٍ أكثر من حالةٍ وأكثر من رؤيةٍ. إنّه سَيْف منحازٌ للحقّ، وهو ذو شِيَمٍ عاليةٍ منسجمة مع طبْع السّيف الذي يَسْتلّه لقتل الباطل ثمَّ يجعل الشّعر ترجمانًا لهذه الشّخصية الخارقة كما يراها (شخصيّة شبلي الملاّط) عندَما قال: (يا شعرُ خَلِّدْ)، وهنا يلجأ إلى الحذف لأنّ ما تقدّم يدلّ على ما حَذفه.
فالخلود لا يأتي إلاّ بسيفٍ يثورُ على الباطل وتكون صفات صاحبهِ خارقة وصارمة وتكون منسجمة مع طبع السّيف المدافع عن الحقّ، ثُمّ يؤكِّد في البيت نفسه أنّ قلم الشاعر الملتزم بقضيّة كبرى يتحوّل إلى سَيْف (وسيف ذلك القلم) أيْ أنّ القلم يفعل فعله الصّارم عندما يكون نابعًا من قيمٍ عُليا تَتّفق مع ما يرمي إليه الشّاعر.
كلّ هذه الإيقاعات، والتّفريعات، والمعاني المكثَّفة، جَمَعها الشّاعر في بيتٍ واحدٍ وهو البيت الّذي ذكرناهُ آنِفًا.
ويَلجأ إلى التّقديم والتّأخير في تجديده الشّعريّ الّذي يتميّز به عن غيرهِ، كقوله:
|
مِنْ أَيْنَ ياذا الّذي اسْتَسْمَتْهُ أَغْصانُ، |
|
مِنْ أَيْنَ أنتَ فِداكَ السَّرْوُ والبانُ؟ (عقل،1991م ، ص7). |
ونجدُ أنّ الشّاعر ينتقل من جملةٍ إلى جملةٍ تحمل معنّى آخر،ولكنّها لا تنقطع عن المعنى الّذي أرادَ الكشف عنه.
كما يلجَأُ الشّاعر سعيد عقل إلى استخدام الألفاظ الشّعريّة ليُبْعِدَها عن معناها القاموسي المباشر وَأَنّى التفتّ بشعرهِ، رأيت الكلمة عنده أبعد من معناها القاموسي المباشر. فحين يقول مثلاً: (قلّ الهَمَّ في الغصن) فإنّنا واجدون في هذا القوْل معنًى بعيدًا يريد منه الشّاعر أنْ يُعطي الغصن معنى إحساس الإنسان، فالهَمّ من صفات الإنسان، وسعيد عقل هنا يُفرّغ الصّفات الإنسانيّة على الغصن.
رابعًا: الانتقال من معنى إلى معنى دونَ أن ينقطع الحَبل الرّابط بَيْن المَعْنَيْنِ كقوله في ذكرى خليل مطران:
|
ما المَوْتُ شَمْخَةُ رَأسٍ منكَ تُفْتَقَدُ |
|
واسْلَمْ بباقَةِ شِعرٍ عِطْرُها الأَبَدُ! (عقل،1991م، ص23). |
ثُمّ ينتقل إلى تشبيه الشّعر بباقةٍ وردٍ ويُعطي لهذهِ الباقة من الورود عطرها الأبديّ؛ وهو يقصد في هذا الكلام خلود شعر خليل مطران، فإذا كان العطرُ هو الأبَدُ؛ فهذا يعني أنّ الشعرَ لا يموت إذا صَدَر عن شاعرٍ بمستوى خليل مطران.
خامساً: حدّة الصّورة الّتي يتناوَلها شعر سعيد عقل،والمسكوبة في شكلٍ عروضيّ تقليديّ، كقوله مثلاً في ذكرى وفاة الأخطل الصغير:
|
وَالكَوْنُ قُلْهُ رَنينَ الشِّعْرِ، قُلْهُ صَدًى |
|
لِكَفِّ رَبِّكَ إذْ طَنّت على الزّمَنِ (عقل، 1991م، ص97). |
وهنا، لا بدّ لنا من السّؤال:
ما الّذي يُميّز هذه الصّورة الشّعريّة عن غيرها من الصّور، عند الشّعراء الآخرين وما الّذي يجعلها من الصّور الجديدة في شعراء الكلاسيكيّة الجديدة؟.
إنّ الشّاعر يُكثّف الكون كلّه بصدى الشّعر (رنين الشّعر) وإذا تَمادى رَسَمَ صورةً فيها كثير من الجدّة حين قال: إنّ الكَوْن هو صدًى لمرور يدِ الله على الزّمنِ، مستخدمًا في ذلك الصّوت،والإيقاع، والموسيقى، والتّجْسيد، والزّمن، والمكان في آنٍ.
(قله صدًى)؛ هنا نجد صوت وترداد هذا الصّوت على مدى الكون، وتتجلّى موسيقى المعنى بقوله: (إذا ظنّت على الزّمن) ويستخدم الكف، (لِكَفِّ ربّك) كفّ الله لتجسيد المعنى، لتجسيد الصّدى والصّوت والرّنين، كما أنّه يستخدم المكان في قوله: (والكون قُلْهُ)، ويستخدم الزّمن في قوله: (إذْ طنّت على الزّمن)،كلّ هذا في شعر سعيد عقل يتجلّى في الشّعر، إنّه في هذا البيت يُقرّب الشّعر من المخلوق الأوّل عندَ الله، فكأنّ الكون بكلّ ما فيه من مُعْطياتٍ هو رنين الشّعر الذي جَسَّدَ الكون بلمسةٍ من كفّ الله لأشياءِ الوجود كلّها.
سعيد عقل هنا، يُعطي الشّعر الأَسْبَقيّة على كلّ شيءٍ في الوجودِ.
سادسًا: الإغرابُ في الصّورة والتّشبيه وهذا ما يُبِعَدَهُ عن شعر سابقيه ويجعَله مُتَميّزًا بكلاسيكيّته الجديدة، جَعَلَتْه من أعلامها الكِبار ففي قَوْلِهِ مثلاً:
بَعيدًا، عن شاطئ الذّات،
في غَمْضَةِ الأشْهُبِ،
حوالى مَطَلِّ الوُجود،
في العَبَقِ الطّيّبِ،
هُنالِكَ، والآنَ بين
المُمَهَّلِ والمُسْهَب،
شَدَدْتُ يَدَ السِّرِّ وَهْوَ
على المَهْدِ بَعْدُ غبي
(عقل، 1991م، ص 10-11).
أنّى التَفَتْنا في هذهِ الأبيات من قصيدتهِ (على شاطئ الذّات)، نجدُ غرابةً في الأداءِ وفي الصّورةٍ معًا، فالذّاتِ الإنسانيّة لها شاطئٌ ومَوَانئٌ ولو سَمع الكلاسيكيّون هذا الكلام لقالوا له ما قاله الأقدمون لأبي تمّام عندما كان يُلقي شعرًا غريبًا، قال له: لِمَ تقولُ ما لا يُفْهَمُ؟ فأجاب: ولِمَ لا تفهَمَ ما يُقال؟. وهذا ما نجده في كلاسيكيّة سعيد عقل الجديدة.
فالشُّهب تُغمِضُ عَيْنَيْها عندَما تَصلُ إلى شاطئ ذاتهِ، هنالك حيث يغمُرُ العَبَقَ الأشياء… ويَتَجمّع الكون كلّه بماضيه وآنيه وحاضره ومستقبله في لحظة العَبَق الطّيّب. والألفاظ تُعبّر عن هذا بحدّتها ودلالتها الموحية كقوله: (بَيْن الممهّل والمُسْهَب) حيث جعل الزّمن أحيانًا يستطيل وأحيانًا لا يجيء وأحيانًا يكون طويلاً في حضورهِ.
ومن غرائبِ كلاسيكيّته الجديدة، أنّه يُعطي صفات مبتكرة لما يُريد أن يَصفه مثلاً في قوله: (شدَدت يدَ السّرّ وهو على المهدِ بَعْدُ غبي) فللسّرّ يد رغم أنه غير مرئيّ وهذا التشخيص من غرائبِ الاستعمالات الشّعريّة ويصف السّرّ بالغباوةِ قبل ولادته لأنّه أخذ أهميّته من وضع يد الشّاعر عليه.
سابعًا: لبنان في كلاسيكيّة سعيد عقل هو أكثر الأشياء حضورًا بتاريخه، وآثارهِ، وبقدموسه، وبثقافته، وبأدبائه،وبطبيعته، وبكلّ ما فيه من أشياءٍ. حضورُ لبنان في شعر سعيد عقل يُعطي لكلاسيكيّته الجديدة معنًى متميّزًا حيث يَرقى لبنان في شعره إلى أبعدِ من كوْنهِ مكانًا حتّى ولو كان يتحدّثُ عن غيرهِ؛ إذ يقول في قصيدته الّتي تغنّيها فيروز (يا شام) واصفًا لبنان:
أنا حسبي أنّني من جَبَلِ
هُوَ بينَ اللهِ والأرضِ كلام
الشّاعرُ لا يستطيع إلاّ أنْ يمزج نفسه بلبنان، وهذه من صفات لبنانيّته التي يَعْتَدّ بها كثيرًا، ثمّ وإنّ قارئ هذا البيت يرى أنّ لبنان أبعد من الأرضِ ويكادُ يكون وحيًا من وحي الله بَيْن السّماء والأرض فلا يعود جَمادًا، وإنّما يغدو كجبريل يُخاطب الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم). في غارِ حِراء.
ثامنًا: المبالغة:
سعيد عقل، من الشّعراء المشهورين بالمُبالغة إلى حدود غير متصَوّرة، والمبالغة في شعره تدلّ على خصوبةِ خيالِهِ ومدى هذا الخيال المتحدِّر إليهِ من جبال لبنان العالية، فالطّبيعة الّتي توجد فيها جبالاً عاليةً تَهَبُ أدباءها خيالاً يُوازي عُلُوّها أحيانًا كثيرةً.
يقول في رثاء عمر فاخوري:
|
ببالي مَرَرْتَ اليَوْم، فَلْيَشْتَعِلْ بالي، |
|
كَأنّكَ قَصْفُ الرّعْد في الجبلِ العالي(عقل،1991م، ص60). |
إنّ الصّورة الشّعريّة واضحة هنا، بجنوح خيالها حيث يُصبح الشّخص الّذي يُرثيهِ قَصْفا كرعودِ الجبال العالية. وهذا التّصوير العالي للشّخصيّات الّتي يتناوَلها، يدلّ على مدى خيالِهِ المُتَوَثّب،ومبالغتِهِ الّتي تتجاوز ما هو عاديٌّ؛ لتجعله متميّزًا بكلاسيكيّة جديدةٍ تعود إليهِ وحده.
تاسعًا: في شعر سعيد عقل لا نَجدُ عواطفَ مُتفجّرَة والدّليل مُبالغته، وهذا ليس عَيْبًا؛ لأنّ مبالغاتِهِ مُشْتَقّةٌ ومتحدِّرة من خيالِهِ المجنّح. والمبالغةُ في معظم الأحايين لا تنسجمُ مَعَ لوعةِ العواطف، ويبدو أنّ هذا مرتبطٌ بتجربتهِ الحياتيّةَ الّتي لم نجدْ فيها مآسي ومصائب رانت على حياتِهِ.
عاشراً: دائمًا في شعر سعيد عقل تتكرّر لفظة السّيف والمجد، وكلّها تعبّر عن اعتدادِهِ بشعره، وبلبنانِهِ وبالموصوف الّذي يتحدّث عنه.
كما أنّ كلاسيكيّة عقل الجديدة، تتجلّى بتنوّع التّفعيلات وتوزيعها على أكثر من تفعيلة، كما في قصيدته «علمت أمي بنا» وقصيدة «شال»، بعد انجذابه إلى تجربة الحداثة في ديوانَيْه “أجمل منك؟ لا قصائد من دفترها” إلاّ أنّ الكلاسيكيّة ظلّت مسيطرة على شكل قصائده، على الرّغم من إسهامات الحداثة، الّتي أغنت بدورها هذه الكلاسيكيّة، وتجربة عقل تشبه تجربة الشّاعر الفرنسيّ لويس أراغون الّذي قرّر في ديوانه “عيون إلزا” العودة إلى الشّعر المنظوم بعد خروجه عنه من خلال المسار السوريالي,1975) Aragon).
ب– الصّورة الشّعريّة، ورمزيّة اللّغة:
يكتسب الشّعر أهمّيته ودوره وغناه من الصّورة الشّعريّة؛ لأنّها تعطي الألفاظ المؤلّفة للّغة قدرتها الإيحائيّة في الدّلالة فتغدو القصيدة الّتي مسّت كلماتها “الصّورة ينبوعًا لا ينضب للإمكانيّات الدّلاليّة والصّوتيّة”. فالصّورة الشّعريّة هي “جسدٌ يمتدّ بين كلمة وأخرى، ليست تشبيهًا، وليست رمزًا لشيء غريب عنها، ولكنّها ترمز إلى ذاتها، إنّها غايةٌ، هي الفكرة، هي المعرفة، هي الحلم… فتتبدّى الصّورة “عنصرًا حيويًّا من عناصر التّكوين النّفسيّ للتّجربة الشّعريّة، ولتبلورها اللّغويّ في بنية متشابكة، لها نموّها الدّاخليّ وتفاعلاتها الفنّيّة” (أبو ديب، 1981/2014م، ص19)، وقد اهتمّ بها الشّعراء؛ لأنّ العاطفة الغاية الأولى للشّعر(العشماوي، 1994م، ص28-104)، فالصّورة تترجم ما ينتاب الشّاعر في داخله؛ إذ توحي إلى النّفس بشتّى الإيحاءات، وتؤثّر فيها مختلف المؤثّرات؛ حتّى تنطبع في الأذهان، وتستقرّ في الأعماق(عبد التّوّاب، لا.ت، ص9).
إنّ الصّورة في شِعر الشّاعر سعيد عقل، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافته المتشرِّبة بالأدب الفرنسيّ، والمتشبّعة برومانسيَّة عالية وكثيرة الحضور في شِعره، فهي مزيج من الاستعارات،والتّشابيه، والكنايات، والمجاز؛ لأنّها تمزج هذه الأشكال كلّها دفعةً واحدة. إذْ يبتدّى الغِنى الشّعريّ في نتاجه بشكلٍ خاصّ في غنى “الصّور” الّتي يستخدمها، فيسعى شاعرنا عقل وراء فنٍّ “لا يكمنُ في البحثِ عن مواضيع جديدة بل يحملُ هموم جَمال العبارة والقُدرة التّعبيريّة للصّور، وأناقة التّركيب (حجّار، 1991م ، ص191). ففي قصيدته «نيانار» يقول:
|
في الغَيْبِ لَوْنٌ هاجِعٌ لم يَفِقْ |
إنَّنا نحارُ ونحن نقرأ هذه الأبيات الغارقة في رومانسيّتها وفي تمازج الحواس فيها وفي تهديم الفواصل بين المجسّدات والأفكار والعواطف. هل ينتمي إلى مدرسة «بودليير» أمْ هي رومانسيَّة شرقيَّة؟! وفي كلّ تجلّياتها لا تبتعد عن الرّومانسيَّة الفرنسيَّة الغارقة في ذاتيّتها والمتمازجة بالطّبيعة تمازجًا عجيبًا حتّى لكأنَّه الحلول في الطّبيعة، وليس المراقبة لها، ولا تستغرب هذا، لأنّ شاعرنا عقل ينتمي أيضًا إلى مدينةٍ تكاد أشجارها وأصداء وادي عرائشها، أن تذكّرنا بأصوات السَّاحرات وأعراس الجنّ في حكايا ألف ليلة وليلة.
في هذه الأبيات الآنفة الذِّكر، تتبدَّى لنا الصُّورة، حتّى وإن اتّخذت صورة الاستعارة إلاَّ أنّها قريبة من الرّؤيا البودليريَّة للشّاعر حين يقول:
«كنتِ ببالي فاشتَمَمْتُ الشَّذا
فيهِ، تُرى كنتِ ببالِ الورود؟(عقل، 1991م، ص83).
نجد استعارة مكنيّة للمفهوم الكلاسيكيّ للبلاغة؛ حيث يُشبّه الورود بكائنٍ حيٍّ، وله خواطر وأفكار، وهذا التّشخيص ليس معروفًا بكثرةٍ في شعر شعراء المدرسة الكلاسيكيَّة الجديدة ؛ فهي تميلُ إلى الإغراب الّذي لا يُقيّد بحاسّةٍ واحدةٍ، فحين يقول:
«في الغَيْبِ لَوْن هاجِعٌ لم يَفِقْ»
نجد أنَّ الغيب شيءٌ مجسَّدٌ ومُشخّص ورغم أنَّ الغيب حالة غير مرئيَّة، فإنَّ سعيد عقل يجعل للغيب لونًا يهجع كالبشر، وفي هذا جنوحٌ خياليٌّ بعيد وتجاوزٌ على حدود الحواس، فاللّون يخضع للحاسّة البصريَّة، أمَّا الغيب فإنّه أبعد ما يكون عن هذه الحاسَّة البصريَّة. والغيب في هذا البيت الشِّعريّ يكاد يبوح بمكنوناته كما يتجلَّى لنا في قوله: «ولا هُمّ به في بَواحْ». إذ يلجأ إلى الصّوت، فكأنَّ الغيبَ يبوح ويتكلَّم ويحكي (في بَواح).
والتّشخيص هو دائمًا سمة الخيال المجنّح، حتّى الأغنية تشبه الماء الزلال الّذي لا شوائب فيه، حيث يقول:
«أغنيةٌ من الزُّلال الصُّراحْ».
ويجعل للغيبِ لونًا، إنّه لونٌ غامضٌ، هاجعٌ، لا يزال في إغماضة الدهور، فيتساءل عن اللّون، وعن الكينونة، “لا برتقاليّ ولا أبيض”، إنّه شيء بينهما؛ وهذا يعني أنّ الغيب مرتبط بالحاسّة البصريّة.
وهذا الاختلاط هو خاصّة بارزة ومعروفة في الشِّعر البودلييري. ففي هذه القصيدة يشرع عقل إلى جمع المتناقضات تنافرًا في انسجام جديد. كما لو أنّ الغاية هي “إرساء تقابل ضمْنيّ –وبودلييري ضمنيًّا” (Baudelaire, 1972, P11). ، وفي النِّهاية، يظهر الحَدَث، شلاّل وسَكْب من العمر. في قوله:.
|
«وكان شيئًا أن ترى أرضَنَا |
وللرّومانسيَّة حظٌّ وافرٌ في شِعر سعيد عقل، إذ تهيمن عليه، وتحديدًا في تلك المرحلة الّتي كتب فيها هذا الشِّعر الوجدانيّ المفعم بالصَّبابة والطَّبيعة الغارقة فيه وفي شعره معًا.
فحين تمرُّ حبيبته بباله، يكون كَمَن يشتمّ شذى الورود دون أن تكون حبيبته موجودة ونستنتج من ذلك أنَّ حبيبتَهُ ساكنةٌ ببال الورود. فالشَّاعر هنا في تساؤلٍ دائم، عن سرّ الجمال، أهو حقًّا في الوجود، أم أنّه ما زال في شوقٍ وانتظار، حتّى يقول أنّ باله مطيّب بوجود الحبيبة فكرةً فيه، تُطالعنا هنا استعارة مكنيّة، إذ تمكّنا من معرفة المستعار منه الإنسان، بحيث أنّ البال خاطرٌ من الخواطر البشريَّة، وتقديمها لعنصر رومانسي (الوردة) برمزيّتها الطّاغية وهي المحبّة، وجاءت بصيغة الجمع لتحلّ محلّ عالم الشّاعر، وهاجسه الدائم وهو الجمال والمحبَّة. وهنا نستطيع القول، أتراها كانت تعيش ببال الورود قبل أن خَطرت في باله؟
عِلاوة على ما تقدّم، نلحظ في صور سعيد عقل، الحركة، إذ نجد تمازجًا بين الحركة والصّوت، إذ يقول:
|
لأجلِكِ اخْضَلَّتْ رُبَى جَنّتي، |
في البيت الأوّل نجدُ حركةً واضحة ولكنّها مرتبطة بوجدان الشَّاعر، فالطَّبيعة تميدُ بأغصان أشجارها عندما تجتاحها الرِّياح، وهذه الرِّياح ذاتها اجتاحت وجدان سعيد عقل، فلفحت قلبه وأثارت عاطفته، فمادَ معها كما الأغصان، والحبيبة يستهويها ثَنْي القدود. (تحلم بالسَّكب وثني القدود)، كتعبير حسِّي عن هذه الرِّيح، فما الممارسات الجسديَّة سوى انعكاس كعاطفةٍ وجدانيَّة. في البيت الأوّل نجدُ حركةً واضحة ولكنّها مرتبطة بوجدان الشَّاعر، فالطَّبيعة تميدُ بأغصان أشجارها عندما تجتاحها الرِّياح، وهذه الرِّياح ذاتها اجتاحت وجدان سعيد عقل، فلفحت قلبه وأثارت عاطفته، فمادَ معها كما الأغصان، والحبيبة يستهويها ثَنْي القدود. (تحلم بالسَّكب وثني القدود)، كتعبير حسِّي عن هذه الرِّيح، فما الممارسات الجسديَّة سوى انعكاس كعاطفةٍ وجدانيَّة.
وإذا كانت الرّومانسيَّة الأوروبيَّة قد انتقلت إلى شعرنا العربيّ عبر شعرائها الكبار، فإنَّنا لا نستطيع أن نُلغي مفهوم الرُّومانسيَّة من شعرنا القديم، فإذا كانت الرّمزيَّة الحديثة تتميَّز بالحلول في الطَّبيعة والاغتسال بها من رجس الحياة، فإنّنا واجدون حلولاً طبيعيًّا في القصيدة الطلليَّة عند شعراء العرب الأقدمين؛ حيث كان الشّاعر يستنهض الأطلال ويخاطبها وكأنّها ما زالت آهلة بالسّكّان وهذا يعني أنّ الطّبيعة هنا عبّرت عن وجدان الشّاعر ولجأ إليها إطفاءً للواعجه وهمومه. وإذا كانت الرّومانسيّة تأخذ المعنى الطّللي في شعرنا القديم، فإنَّ هذه الأطلال كانت جزءًا أساسيًّا من الطّبيعة العربيَّة. وتوحّد بها الشّاعر ولجأ إليها ليستعيد ذكرياته مع حبيبته حتّى لكأنّها موجودة على هذه الأطلال، مُناجيًا معبِّرًا عن شوق لوهم أو فكرة أو خاطرة. وهذا ما تُلائمه الرّومانسيَّة الحديثة الّتي وَفَدَت إلينا من الأدب الأوروبيّ.
وهذا ما نجده بعمقٍ في شعرنا القديم حيث الطّبيعة والحبيبة شيء واحد. وقد وجدنا هذا في شعر أحمد شوقي الّذي نطق بلسان قيس بن الملوَّح، حيث رأى جبل التّوباد الّذي كان هو وليلى فيه (يَرْعيان غنم الأهل معًا). يقول شوقي متلبّسًا صورة قيس لتبيان العلاقة بين الطّبيعة والإنسان، إذ يقول:
|
وَأجْهَشْتُ للتّوبادِ حينَ رَأيْتُهُ هنا، شيئان يُكملان صورة الرَّمزيَّة، في شعرنا العربيّ، قيس يرى التّوباد فيبكي، وجبل التّوباد يجهش لذكريات الماضي. وفي كلاسيكيَّة عقل الجديدة، نجد غرابةً في صوره، ولكنّ هذه الغرابة ليست بعيدة عن التّصوّر والإدراك. ولكنّ غرابتها تنبع من مخالفتها لشعراء الكلاسيكيَّة الّذين سبقوها.
|
|
وكبر للرّحمنِ حينَ رَآني
|
ومن الصّور الغريبة والموحِيَة قوله:
|
أجْمَلُ ما يُؤْثَرُ عن أرضِنا |
فالأرضُ هنا لم تَعد جمادًا وإنَّما هي تتوهَّم أنَّ هناك امرأةً ليست كالنِّساء طافت بهذا الوجود وأعطته معنى أن يكون، وتتكرَّر هذه الغرابة التّصويريَّة في شعر سعيد عقل باستمرار ولا ننسى أن نذكر في كلّ ما مرّ معنا في هذا الفصل أنَّ الاستعارة كانت سيّدة الحضور في شعره، فعندما تحلم الكرمة، نجد استعارة مكنيَّة، فالكرمة هي كالإنسان الّذي يحلم، فحذفنا المشبّه به وكنَيْنَا بشيءٍ من لوازمه وهو (الاستيقاظ)، كقوله:
واستَيْقَظَتْ من غفوةٍ كرمَةٌ
وفي قوله:
أنا الخَمْرةُ في كَأْسِكِ
والسَّكْرَةُ في خَمْرِكِ
نجد في هذا البيت تشبيهَيْن بَليغَيْن، يشبّه نفسه بالخَمرة، وحذف أداة التّشبيه ووجه الشّبه.
وفي قوله: والسَّكْرَةُ في خَمْرِكِ: نجدُ تشبيهًا بَليغًا ثانيًا. وإيحاء هَذَيْن التَّشبيهَيْن، ينبع من حلول المحبّ فيمن يحبّ.
إنَّ المبالغة في الصّورة من أبرز مميّزات سعيد عقل في انتمائه إلى الكلاسيكيَّة الجديدة، لأنّه تخطّى بذلك الصّورة الّتي كانت في شِعر الشّعراء الّذين سَبقوه. وتتكرَّر التّشابيه البليغة، كما في قوله: أنا الفَـوْحُ، أنا الفَوْحُ، أنا البَوْحُ.
أنا السَّهْوَةُ في فِكْرِكْ
فهو يشبّه نفسه بالفَوْح والبَوْح والسّهوة في فكر الحبيبة، إذ حذف أداة التّشبيه ووجه الشّبَه، إذ باتَ الشَّاعر خمرة وسكرة محبوبته وفوح العبير وسَهْوة أفكارها، وكلّ شهواتها. ومعروفٌ أنَّ الرّومانسيَّة دائمًا تلجأ إلى المبالغة للتّعبير عن هواجس الشّاعر وأحلامه الّتي لم يستطع تجسيدها على الأرض، فخَلَقَها في الخيال، إذ خلق طبيعةً جديدة.
وتستمرّ الغرابة في صوره الشِّعريَّة إلى أبعد مدىً كما في قوله:
فَعُمْري سَفْرَةٌ من بدءِ
عيْنَيْـكِ إلى سِـرِّكْ
إنَّ لفظة «بدء» تضاف إلى عيْنَيْها، والّتي يعتبرها الشّاعر مصدر الوجود وملهمته حتّى يكاد الخيال لا يحيط بالمدى الّذي تريد هذه الفكرة أن تصل إليه. وأحيانًا تأتي الصُّورة موحية ومليئة بالشِّعر، كما في قوله:
|
أقولُ ارتَفِقْ بالشِّعر أنْتَ ابْتَدَعْتَهُ |
ففي قوله (أغانيك زهرُ الجمر): تشبيهٌ بليغٌ، إذ يُبيِّن في هذا التّشبيه تأثير الجمال الّذي يغوص في النَّفس بحدَّةٍ، حتّى لكأنّه زَهرةٌ من نار. فالعاطفة كالنّار، والزّهرة هي الأغنية الّتي يصفها، ويكثر التّشبيه البَليغ في شِعر سعيد عقل، كقوله على لسانِ البطل في مسرحيّة قدموس الّذي يقول مستنكرًا غياب العدالة:
|
أنْتِ؟ ما أنْتِ والتّبَجُّحَ بالعَدْلِ؟ |
في هذا البيت، يلجأ الشّاعر في التّعبير عن الظّلم، بتشبيه العدالة بالدّمية، بتشبيهٍ بليغٍ، كما يتفرّع تشبيه ثانٍ في هذا البيت ألا وهو «أنتِ» على غرار العدل مشبّه بـ(لاعِب).
وهنا في هذين التّشبيهَيْن: (أنْتِ = لاعِب) و(عدل = دمية)، للدّلالة على الظّلم.
وفي قوله:
|
وأَيْنَ شَرَّدْتِني؟ أَوَّاهُ! لا سَألَتْ |
(أنا عيْناكَ) تشبيهٌ بليغٌ، فحذف أداة التّشيبه ووجه الشّبه، وهذا يُثري ويوسِّع دلالة الوطن، فعيناها بالنِّسبة للشَّاعر هي (وطن)، إذ تتحوَّل عَيْنَا حبيبته إلى سلام وراحة واطمئنان وهدوء وسكون، وهذه المزايا مختصّة فقط بالوطن.
ويقول:
|
وَسَوْفَ نَروي قِصَّةً عَلِقَتْ |
في هذه الأبيات، نلحظ التّشبيه والاستعارة والكناية، مصوغة كلّها دفعة واحدة، ففي قوله (بَيْنَ فَتْحِ العَيْنِ والغَمْضِ) هنا كناية عن السّرعة، وفي قوله (دَمعة تمنَّعت) نجدُ استعارة مكنيّة، إذْ شبَّهَ القصَّة بالدّمعة، وفي قوله: (آهةٍ إلى الهَنا تُفْضي)، أيضًا استعارةٌ مكنيّة وتشخيص. وفي قوله: (قِصّة عَلِقت… كَدَمْعَةٍ تمنَّعَت فشفت) و(قصّةً عَلِقَتْ… آهةٍ إلى الهَنا تُفْضي) هنا تشبيهٌ تام الأركان، وفي هذا التّشبيه ينتقل الشّاعر من حالة الحزن (قصّة علقت… كدمعة تمنّعت) إلى حالة العبور والشِّفاء (فشفتْ) فمن الآهات يتوصَّل إلى الهنا، فهذه الآهة تتحوَّل إلى آهة سعادة وسرور وهناء، وبذلك اجتمعت في هذه الصُّورة عدّة صور بيانيَّة ودلالة ذلك تأكيد سَرد القصّة الّتي يريد الشّاعر أن يرويها مع حبيبته كما ذكر في البيت الأوّل (وسوف نروي قصّةً عَلِقَتْ)، فقد استعار الدّموع من الإنسان وأعطاها للقصَّة، كما استعار الآهاتِ والتّأوّهات من الإنسان، ونَسَبَها أيضًا للقصَّة وكأنّ قصّته ممزوجة بالحنين والألم، تبكي حينًا وتتمنّع حينًا آخر، إلى أن تتعرَّج إلى الهَنا.
في مجال التّشبيه، يلجأ سعيد عقل دائمًا إلى أساليب أكثر تعقيدًا أو إيحاءً، ممَّا يتطلَّب من القارئ مشاركةً فاعلة، وبذلك يقترب شاعرنا من الرّمزيّين، فـ«يُصبح صورةً ومحاكاةً»، وقد سمَّى العرب الأشكال المتقدِّمة من التشبيه، فكان عندهم «التّشبيه البليغ، التّشبيه المعكوس» أو «المقلوب»، «التّشبيه التّمثيلي» و«التّشبيه الضّمنيّ»، ويبرع سعيد عقل في هذه الأنواع من التّشابيه وهو الّذي عُرِفَ بـ«صَقْل الفعل» على غرار البرناسيّين» (أديب، 2010م، ص107).
تتصدَّر الاستعارة المكانة الكبرى في دواوين الشّاعر سعيد عقل، فهي سيِّدة الحضور في جميع أعماله الشِّعريَّة، حيث «يصبح الشِّعر شفّافًا ومعبِّرًا بصفاءٍ عن حالةٍ نفسيَّة، عن «أنا» عاشق للجَمال وتحديدًا الجمال الأنثويّ. بحيث أنّ الاستعارة، صورة التّماثل والمُحاكاة، تَفرِضُ نفسَها كـ”أميرة الصّور البيانيَّة”» (أديب، 2010م، ص127).
وفي قصيدة «ألعَيْنَيْكِ؟»، يقول:
|
ألِعَيْنَيْكِ تأنَّى وَخَطَرْ |
إنّ الحُسْنَ المُخبَّأ في عينَيْها، تتوالد لأجله الاستعارات في هذا المقطع الشِّعريّ، فيشخِّصُ القمرَ من أجل إبراز جمال العينين، اللّتين غَيَّرَ مسارَهما القمر. ترسم هذه الاستعارات صورةً واضحةً لجمالِ عينيْها خلال اللّقاءات المتتالية تحت ضوء القمر، فما جماله ونوره إلاّ امتدادٌ لجمال عينيْها والبريق المشعّ منهما، أو هكذا يرى بعَيْن المحبّ الّذي غيَّر مسار الكون، فبدَتِ المرأة الحبيبة هي الموحية المشعَّة الّتي تنثرُ الحُبَّ والجمالَ في الأرجاء.
فاستعار فعل الضّحك في قوله: (ضاحكًا للغصنِ) وفعل الرّاحة (مرتاحًا إلى ضفّة النّهر) ليبيِّن الرَّاحة والسَّكينة الّتي يعيشها وتظهر معالم الأشياء فرحة، فالضّحك من الفرح والرّاحة مصدر السّعادة، وقد حصل عليهما مع المرأة الّتي تنشر هذه السّعادة بنظراتها من خلال عَيْنيها وما تحملها من أُنْسٍ وجمال، تشعرك بالرّاحة والاطمئنان وكأنّ المرأة مصدر لكلّ ذلك، وهذا ما ينعكس على مظاهر الطّبيعة، فالحيلولة والانسجام عند الأوروبيِّين الرّومانسيِّين تظهر جليَّةً بتأثّر سعيد عقل بها. وهو الشّاعر الرّومانسيّ الرّمزيّ المبدع في صُوَرِهِ وانعكاس أفكارها على الكَوْن من حوله. وبالرّغم من أنّ ضوء القمر هو امتداد لبريق عينيْها، يعودُ سعيد عقل إلى التّساؤل في قصيدة «أنا والقمر»، فيُشخِّصُ القمرَ من خلال السّؤال المنتظِر. وبالرّغم من أنّ ضوء القمر هو امتداد لبريق عينيْها، يعودُ سعيد عقل إلى التّساؤل في قصيدة «أنا والقمر»، فيُشخِّصُ القمرَ من خلال السّؤال المنتظِر للإجابة، فيَحَارُ شاعرُنا مَن الّذي يُجيب عن هذا التّساؤل المُضْني، هو أمْ هي؟… وكأنّ المَعْنِيَّة بالإجابة غير موجودة، ليعيد تساؤله مرّة أخرى، يقول:
|
يَسْألُني هل أنا أَنْتِ… |
فالحبيبُ هنا منتظرٌ عودة حبيبته، يُحاكي القمر ويدور الاثنان في فلك السّؤال دون إجابة، فمفتاح الجواب بيد الغائبة عن اللّقاء وكأنَّ معالم الطَّبيعة في هذه القصيدة امَّحَتْ لعدم وجود عينيْها، الّتي تُظهر جوانبَ متعدِّدة من جلسة الأُنس ما بين التّلّة والنّهر، إلاّ أنّ الذّكرى الصّورة لا زالت عالقة في ذهنه، يعيش من خلالها لحظات الانتظار والتّساؤل تحت ضوء القمر، فغدا القمرُ صديقًا وفيًّا شاهِدًا على اللّقاءات بين الحبيبَيْن.
|
أمَّا الإجابة الحاضرة في خاطره وجدانيّة، عبارةٌ عن مناجاةٍ داخليّة، لم تبيِّن من خلالها إذا كان قد أجابَ القمر والمعنيّ بالإجابة غير موجود، غائب، يردِّدُ بمفرده ويتعتَّب عدم الزِّيارة (مذ صُبْحَين ما زارَت) والفَقْد الكبير لساعاتٍ مَرَّت بحدود يومين (صُبْحَين) ولم تظهر حسناء الشَّاعر الّتي أضاءَت ليله. |
ويعود فيشخّصُ الزّنبق الّذي حَلَّت به، فلا يعبّر عن الجمال إلاّ الجمال، وما أجمل من حسناء الشّاعر إلاّ الزّنبق الّذي يدلّ على الرِّقَّة والنّعومة والنّقاء والّذي يفوحُ فيعطّر المكان كما بريق العيون الّذي يُضيئه. وما هذا العطرُ الفوّاح إلاّ اعتذارٌ متأخّر عن الموعد (وعنها الزّنبق اعتذر).
سعى الشّاعر سعيد عقل في قصائده، إلى أن يؤدّي الشِّعر الدّور المغذّي الفاعل للّغة، وكان هاجس النّزوع نحو المغايرة في التّعامل مع اللّغة مهيمنًا على تجربته بعد قراءته لشعراء الرّمزيّة وتأثّره ببعضهم.
ويبقى الرّمز أحد أساليب اللّغة في التّعبير الشّعريّ، على أن لا يتحوّل إلى لغزٍ، بل يجب أن يظلّ الرّمز على شفافيّة تنمّ وتوحي بمضمونه، ويبقى الرّمز، أداة من أدوات الفنّ والجمال.
حوَّل سعيد عقل لبنان إلى رمزٍ، وسعى ليجعلَ لبنان منطلقًا للحضارات الإنسانيَّة كلّها؛ إذ يعدّ رحلة قدموس في البحر إلى أوروبا، ونقل البضائع اللّبنانيّة الفاخرة إلى هناك، أنّه نقل المعرفة ونقل إليهم علم اللّغة. فهو معلّم أوروبا الحضارة وكذلك المدن الفينيقيّة على السّاحل، وكانت مقرّات لاستيعاب الشّرق والغرب في آنٍ.
جاءَ قُدْموسُ بالكِتابةِ، بالعِلْمِ
إليهم، إلى الأواتي العُصور(عقل، 1991م، ص 137).
استمدّ الشّاعر موضوعه من أسطورة إغريقيّة تقول أنّها لما اختطف زوش، كبير الآلهة، أوربّ، بنت ملك صيدون، لحق بهما قدموس إلى بلادِ الأغارقة يستردّ أخته، وأوروبّ هي الّتي أعطت الغرب اسمها كما أعطاه قدموس حروف الهجاء (الألفباء)، وهكذا «كانا الواحدةُ رسالة الحبّ والآخرُ رسالةَ المعرفة».
تناول سعيد عقل هذه الأسطورة الفريدة، وهو رجل الثّقافة الفذّة، وأنشأ منها مأساة فريدة تخلّلتها بعض الملامح الملحميَّة وكان هدفه واضحًا؛ ألا وهو تمجيد لبنان وتمجيد رسالته السّامية على مرّ الدّهور. في دراستنا هذه عن الرّمز عند سعيد عقل، سنكتفي بذكر الشّخصيّات الرّئيسيّة في المسرحيَّة لنبيِّن ما تتضمّنه من رموز، في تجسيد الهدف المُرْتَجى من الأسطورة الإغريقيَّة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ لاستدعاء الموروث التّاريخيّ أهمّيته الكبيرة في الشّعر العربي المعاصر، فلم يترك الشّعراء شخصيّة مهمّة كان لها تأثير كبيرٌ في عصرها، إلاّ وتمَّ استدعاؤها في النّتاجات الشّعريّة المعاصرة، فحمّلوها دلالات فكريّة كثيرة، كشفت عن همومهم المختلفة، وعن واقعهم المتردّي، ويقول موسى نمر في هذا الصدّد:
“يُعدّ التّاريخ بصفة عامّة مَنْبَعًا من منابع الإلهام الشّعري، الّذي يعكس الشّاعر من خلال الارتداد إليه روح العصر، ويعيدُ بناء الماضي، وفق رؤيا إنسانية معاصرة، تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته وطموحاته وأحلامه، وهذا يعني أنّ الماضي يعيش في الحاضر، ويرتبط معه بعلاقةٍ جَدَليّة تعتمد على التّأثّر والتّأثير (نمر،لا.ت، ص117).
والشّخصيّات الرّئيسيّة في هذه المسرحيَّة هي: قُدْموس، أورب، زوش، مِرى، الأعمى والتّنّين، فتوالت هذه الشّخصيّات في ثلاثةِ فصولٍ، ففي قول الشّاعر:
جاءَ قُدْموسُ بالكِتابةِ، بالعِلْمِ
إليهم، إلى الأواتي العُصور؛
وَغَدًا يَعْرفونَ أنّا على السُّفُنِ،
حَمَلْنا الهدى إلى المَعْمور(عقل، 1991م، ص146).
هنا، نستطيع القول أنّ قدموس رمز لبنان، فقدموس حاملاً للمعرفة وينشرها في شتّى البلدان وعلى مرّ العصور، لأنّه يجسّد الوجود اللّبنانيّ في العالم أجمع، وفي هذين البَيْتين يتوحَّد الرّمز (قدموس) مع المرموز (العلم والمعرفة)، في نشر الرّسالة الإنسانيَّة معًا (الهدى)، فقدموس يحمل رسالته الإنسانيَّة السّامية يبشِّر بها، ولولا طموحه، لما صَمَد في وجه الطّغيان بقوّةٍ وبَسالةٍ. أمّا أوروبّ فهي أخت قدموس وعروس زوش، وهي رمز الجمال، رمز الحبّ والمحبّة، وهي الصّادقة في محبّتها وفيما تضمره من عشق لزوجها ولأرضها ووطنها ومسقط رأسها “لبنان”.
إنّ «بنتَ صَيْدون» مرتبطة بمدينةٍ وليسَ بعائلةٍ، ممَّا يجعلها ممثَّلة لأمّة ولروح شعب، ففي مقدّمة هذه المسرحيَّة الّتي تحمل عنوان “لبنان”، وطنٌ للحقيقة». ومن خلال مجموعة من الثّوابت التّاريخيّة والفلسفيَّة والأخلاقيَّة، الّتي تدعم ضرورة وجود لبنان، يكشف عن خيال الشّاعر الّذي يُغذِّيه الإيمان بعظمة الإنسان وسموّه الأخلاقيّ والفكريّ (أديب، 2010م، ص191-192). إذ إنّ أوربّ تمثّل المرأة – الشّعب والمرأة- الوطن، وقد قال الشّاعر على لسانها:
بِـلادي أنـا، ولبنـانُ عَـهْـدُ!
ليسَ أرزًا ولا جِبالاً، وماءً؛
وَطَني الحُبُّ، ليسَ في الحُبِّ حِقْدُ.
وهو نورٌ فـلا يضِلّ: فكـدٌ
وَيَــدٌ تُبْـدعُ الجمـالَ، وعَقْـلُ.
لا تَقُلْ: «أُمَّتي»، وتَجْتاحَ دُنيا؛
نحـن جـارٌ للعالَميـن وأَهْـلُ! (عقل، 1991م، ص210).
لم يتغنَّ سعيد عقل، بـ”لبنان” أرضًا وحجارةً وتُرابًا ولا (أرزًا، ولا جِبالاً، وماءً) وإنَّما تغنَّى بلبنانه، لبنان القيم والمبادئ، لبنان الحُبّ والفضائل، وأنّه (نورٌ) ينشر أشعّته في كلّ أرجاء الكون. وقد رَمَزَ بذلك من خلال شخصيّة أوربّ.
فقدموسُ في شِعر سعيد عقل، هو رمزٌ تاريخيّ فينيقيّ يستعمله الشّاعر رمزًا لـ:
هي الشّكل القصصيّ لتلك الرّموز النّمطيّة العليا التي تؤدّي معًا إلى كشف متماسك المعنى كما يعرفه ويؤمن به (سلوت، 1980م، ص5).
كما رَمز سعيد عقل إلى بعض الشّخصيّات كعُمَر الفاخوري، فأصبح عنده رمزًا أبعد من حدود لبنان في شعره، حيث يقول:
|
بِبالي مَرَرْتَ اليوم، فَليْشْتَعِلْ بالي، |
|
ولا بدّ من أن نفرِّق بين رمزيَّة سعيد عقل ورومنطيقيَّته، فهو أميَل إلى شعراء الرّومانسيَّة، وإنْ رمَزَ بهذه الشّخصيّات إلى رموزٍ حضاريَّة يعتبرها تمثِّل وجود لبنان. ضخَّمَ هذه الشّخصيّات التّاريخيّة وأحالها إلى رموز، ومن هنا اعتبر شاعرًا رمزيًّا في تناوله هذه الشّخصيّات.
|
نستطيع أن نستنتج من قراءتنا شعر سعيد عقل، أنّ تجديده الشّعريّ في رموزه تجلّى بشدّة؛ لتأثّره بالآداب الغربيّة، ولا سيّما بالثّقافة الفرنسيّة فأخذ رموزًا كثيرة ووظّفها في تضاعيف شعره.
وسعيد عقل ابن بيئة مسيحيّة يتسرّب إليها كثيرًا الأسلوب الإنجيليّ، فقد استخدم مريم المجدليّة، رمزًا وأعطاها بعدًا إنسانيًّا، واتِّخذ قدموس رمزًا للتّاريخ الفينقيّ، ولبنان رمزًا لمنطلق الحضارات الإنسانيّة كلّها. لقد كان الشّاعر اللّبنانيّ سعيد عقل أقرب إلى تصوير واقعه اللّبنانيّ من كلّ النّواحي، التّاريخيّة، السّياسيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة، أمّا لغته فقد كانت مختلفة عن لغات سابقيه ومُعاصريه من الشّعراء حيث اتّصف شعره بقوّته البنائيّة الصّياغيّة. إذْ كان شعره مُتّصفًا بالبناء الجميل والصِّياغة المترفة العالية، والّتي تفرّد بها دون سواها. إنّه ببنائِهِ الشّعريّ ليس مقلّدًا لشعر مدرسة الإحياء الّتي سَبَقته، بل كان له بناؤه المختلف عن غيره، كما في قوله:
لا مُذْ بَكَيْتُـكَ قَبْلُ مُـذْ سَكَتَـتْ
يَراعَةٌ لك، قَلَّ الهَمُّ في الغُصُنِ،(عقل، ص96).
وانتماؤه للكلاسيكيّة الجديدة واضحٌ في قوله:
(قلّ الهمّ في الغصن)، وغيره في كثيرٍ من شعره، كقوله:
ما المَوْتُ؟ شَمْخَةُ رَأْسٍ منكَ تُفْتَقَدُ
واسْلَمْ بباقةِ شعرٍ، عِطْرُها الأَبَد (عقل، ص123).
هذه الصِّياغة الجديدة، جعلته حديثًا مقارنَةً بسابقيه. أمّا من ناحية المضمون فقد تجلَّت كلاسيكيّته الجديدة، بالإضافة إلى صياغته البنائيّة بمواضيعه الّتي عالجها في شعره، كما في دواوينه: رندلى، قدموس، بنت يفتاح.
لقد تناوَل مرحلة التّاريخ الفينيقيّ في معظم نتاجه الشّعريّ، وهذا تميُّز به عن غيره من الشّعراء. ومن حداثته أنّه اهتمّ أكثر من سابقيه بتأليه لبنان، حتّى لكأنَّ لبنان إلهٌ يُعبد في شعره. كقوله:
أنـا حسبيَ أنّنـي مِنْ جَبـَلٍ
هُوَ بَيْنَ اللهِ والأَرْضِ كَلامْ (عقل، ص84).
استخدم سعيد عقل رموزه للتّعبير عن الهُويّة اللّبنانيّة، فقد رمز إلى لبنان بالمجد، والطّبيعة الخلّابة، والأرز الّذي يمثّل الخلود والعَظَمة. أمّا رموزه الدّينيّة فقد استحضرها للتّعبير عن العمق الرّوحيّ في شعره، وإشارة للتّأمّل والبحث عن المطلق. أما رموزه المُستقاة من التّاريخ الإغريقيّ والمتجسّدة في الشّخصيّات الأسطوريّة؛ أراد التّعبير بها عن ارتباط شعره بجذوره الثّقافيّة العميقة. ويرى شاعرنا أنّ الشّعر يتجاوز اللّغة اليوميّة؛ لذلك عمد إلى استخدام الرّموز بكثافة بغية إيصال المعاني بطريقة غير مباشرة، إذ يعتمد على التّكثيف والتّلميح بدلًا من التّصريح، وهذا مايجعل المتلقّي مشاركًا في فكّ شيفرات النصّ الشّعريّ.
المصادر والمراجع:
الكتب العربيّة:
الكتب المعرّبة:
الدّوريّات:
المراجع الأجنبيَّة:
البريد الإلكترونيّ: [email protected] ت: 0096176592130

