أخبارمحلية

محطات في تاريخ الثورة الفلسطينية

الفاتح من يناير لعام 1965

“اتكالا منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيماناً منا بواجب الجهاد المقدس، وإيماناً منا بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم”.

كلمات خطتها القيادة العامة لقوات العاصفة، التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح” في بيانها العسكري الأول، ايذانا بانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1964، لدحر الاحتلال، وتحرير الأرض المغتصبة، وإعادة الحقوق العادلة المسلوبة، وبناء دولة مستقلة قادرة على النهوض والتطور نحو مستقبل أكثر اشراقاً لكل أبناء الشعب العربي الفلسطيني في الوطن والمنافي.

ففي الفاتح من كانون الثاني-يناير عام 1965، كانت الطلقة الأولى، بعد أن تسللت المجموعة الفدائية الأولى لحركة “فتح” إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وفجرت نفق عيلبون الذي كان يستغل لسحب مياه نهر الأردن لإيصالها إلى صحراء النقب، لبناء المستوطنات من أجل توطين اليهود المهاجرين فيها، وعادت المجموعة الفدائية إلى قواعدها بعد أن قدمت شهيدها الأول أحمد موسى أثناء العملية لتعمّد بالدم باكورة مقارعتها للاحتلال، وكان البلاغ العسكري رقم واحد:

بسم الله الرحمن الرحيم

حركة التحرير الوطني الفلسطيني ” فتح”

بلاغ عسكري رقم “1”صادر عن القيادة العامة لقوات العاصفة

“اتكالاً منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيماناً منا بواجب الجهاد المقدس، وإيماناً منا بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم؛ لذلك فقد تحركت أجنحة من القوات الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964م وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة”.

“وإننا لنحذر العدو من القيام بأية إجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب أينما كانوا، لأن قواتنا سترد على الاعتداء باعتداءات مماثلة، وسنعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب، كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو بأي شكل كان، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح الدول للدمار أينما كانت”.

عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه

القيادة العامة لقوات العاصفة

التاريخ 1/1/1965

جاءت النشأة إثر نكبة عام 1948، حيث شَرَّدت العصابات الصهيونية 800 ألف مواطن فلسطيني، وطهرت عرقيا ودمرت 531 مدينة وقرية فلسطينية، ليعيشوا ظروفا بالغة القسوة في 58 مخيما، موزعين بين الاردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة، وفي داخل فلسطين التاريخية يعانون فيها شظف العيش ويفترشون الارض ويلتحفون السماء، ويعيشون على القليل مما تقدمه لهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الاونروا”.

في ظل الوضع العام الأسوأ الذي عاشه الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وفي زمن الركود والهزيمة واللجوء، استشعرت مجموعة من الفلسطينيين بخطورة المرحلة، وحجم المؤامرة، وضرورة العمل لأخذ زمام المبادرة بالامكانيات المتوفرة والوسائل المتاحة، لإنهاء احتلال أرض فلسطين العربية، ووقف جريمة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.

بدأت الفكرة تتبلور وملامحها تتضح في عام 1957 بعد قرابة عشر سنوات من “النكبة”، حيث اتفق الشهيد ياسر عرفات حينها مع ثلة من الرواد الاوائل على تشكيل حركة وطنية فلسطينية جامعة تقاوم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، منطلقين من ايمانهم بأن مواجهة المؤامرة لا يمكن ان يكون الا بالإيمان الصلب، وبالعمل المنظم والمسلح والجامع لكل الطاقات.

وبدأت التعبئة النضالية تتسع، وأصدرت حركة فتح صحيفتها الأولى تحت اسم “فلسطيننا- نداء الحياة”، ووجهت خلايا الفدائيين ضربات موجعة لقوات الاحتلال انطلاقا من قطاع غزة، الذي كان تحت الادارة المصرية، بينما كانت الضفة الغربية تحت الحكم الاردني الذي اعتبرها جزءاً من المملكة الاردنية الهاشمية، واتخذ قرارا بتوحيد الضفتين الشرقية والغربية عام 1951.

تباينت ردود أفعال الحكومات العربية على العمليات العسكرية للفدائيين ضد الاحتلال، فمنها من اتهم منفذيها بأنهم شيوعيون، وآخرون وصفوهم بالعملاء، او بأنهم مندسون لتوتير الأجواء بين الحكومات العربية و”اسرائيل”، فيما بدأت بعض الحكومات بملاحقة من يفكر بالنضال ضد الاحتلال، حتى وصل الأمر بملاحقة من يستمع الى بعض الإذاعات العربية، الا ان ذلك لم يثنِ المؤسسين الاوائل عن مواصلة عملياتهم الفدائية التي كانت تحظى بتأييد وترحاب جماهيري عارم.

اتسمت الفترة الممتدة من 1957-1965 بالإعداد والتجهيز، سواء عبر توسيع الاستقطاب وصياغة الأدبيات الأولى للحركة خاصة كتيب”هيكل البناء الثوري”.

تصاعد العمل العسكري ضد الاحتلال دون افصاح عن هوية روَّاده وأبطاله، وتنامى كذلك التأييد للفعل النضالي، ما حفز قيادة الحركة على التحضير للانطلاق، خاصة وان الحكام العرب أرادوا أن يتنصلوا من مسؤولياتهم القومية تجاه فلسطين، وأن يخلقوا قيادة فلسطينية تتولى ادارة شؤون الشعب الفلسطيني وتمثله في الاجتماعات العربية الرسمية، فكان قرارها بتكليف احمد الشقيري بانشاء هيئة فلسطينية تكون الجامعة العربية مرجعيتها، لكن الشقيري بادر بعقد المجلس الوطني الفلسطيني الاول عام 1964 في القدس وعاد الى الجامعة العربية بصفته ممثلاً للشعب الفلسطيني في الجامعة العربية، وليس كما أراد الزعماء العرب ممثلا للجامعة العربية في فلسطين.

اتخذ ياسر عرفات وصحبه قرارهم الذي غيّر مجرى التاريخ الفلسطيني، بالاعلان عن انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” في الأول من كانون الثاني عام 1965، ببيان رسمي صادر عن قوات العاصفة بعد عملية عسكرية استهدفت تدمير نفق لتحويل مياه نهر الاردن الى المستعمرات الصهيونية “عيلبون”، لتعلن “فتح” بيانها الأول باسم “قوات العاصفة”.

أرادت حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح في بيانها الأول تحقيق عدة أهداف، أبرزها قطع الطريق على تلك الدول العربية التي حاولت تشويه نضال الفدائيين الفلسطينيين ضد الاحتلال، ودعوة أبناء الشعب الفلسطيني للانخراط في مقاومة الاحتلال تحت شعار توحيد كل الطاقات لمواجهة العدو، وتثبيت الكينونة أو الكيانية الفلسطينية التي كانت مستهدفة بالتذويب والاهمال والاحتواء، وتعرية كل القوى التي تتخذ من فلسطين وقضيتها وسيلة لتضليل الجماهير دون ان تقدم شيئا على أرض الواقع، وإبراز الهوية السياسية و والنضالية للشعب الفلسطيني، واعادة ثقة الفلسطينيين بقدرتهم على النضال وصولا الى التحرير والعودة، كطليعة الامة العربية في مواجهة الاستعمار.

لم يمضِ وقت طويل على انطلاقة حركة “فتح” وتصاعد عملياتها العسكرية، حتى تأسست جبهات فلسطينية أخرى وأخذت دورها في مقاومة الاحتلال، فانطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية القيادة العامة، والجبهة الديمقراطية، وتراجعت تنظيمات أخرى عن ركب الكفاح المسلح.

بعد عامين ونصف من انطلاقة حركة “فتح” احتلت “اسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وأراضيَ اردنية ولبنانية، ونقلت حركة فتح قواعدها على الضفة الشرقية لنهر الاردن وواصلت عملياتها اليومية ضد الأهداف الاسرائيلية والتي تجاوزت المئات في كل بقعة من الاراضي الفلسطينية المحتلة.

أدرك الاحتلال أن فتح والتنظيمات الفلسطينية هي الخطر الأكبر الذي تواجهه، خاصة مع تصاعد العمليات العسكرية كمَّاً ونوعاً، والتي وصل عددها الى اكثر من 200 عملية شهرياً – قبل حرب حزيران 1967 وبعدها- ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، وكان من أبرزها عملية الحزام الاخضر عام 1968 والتي استمرت 24 ساعة تم فيها السيطرة على مستوطنة ورفع العلم الفلسطيني عليها قبل ان يحشد جيش الاحتلال المزيد من قواته لمواجهة الفدائيين.

كما أدرك الاحتلال الاستعماري أن حركة فتح بدأت بنسج علاقات دولية مستفيدة من تجارب الثورات الاقليمية والعالمية خاصة الثورة الجزائرية المنتصرة، وأعادت تشكيل وبلورة الهوية الفلسطينية فكريا وسياسيا، فقرر الاحتلال التخلص منها بهجوم واسع شارك فيه 15 الف جندي من مختلف الوحدات العسكرية للقضاء على بضع مئات من الفدائيين المتمركزين في قرية الكرامة الاردنية ومحيطها، فشنت عدوانها المعزز بالطائرات والدبابات والمدفعيات وناقلات الجند، لكن فدائيي “فتح” قرروا المواجهة بامكانياتهم المتواضعة وعددهم المحدود، فتصدوا وابطال الجيش العربي الاردني ببسالة للقوات الغازية، التي طالبت بوقف اطلاق النار لسحب جثث قتلاها وآلياتها العسكرية المدمَّرة من ارض المعركة، فكانت هزيمة عسكرية ومعنوية وسياسية على جيشٍ هزم ثلاثة جيوش عربية في حزيران 1967.

جاء انتصار الكرامة ليشكل نقطة تحول جديدة ومنعطفا عظيمًا، ليست للقضية الفلسطينية فقط بل للأمة العربية المحبطة بعد هزيمة 1967، فانضم آلاف الفلسطينيين والعرب الى حركة فتح التي أعادت الكرامة للأمة بأكملها، لتصبح “الكرامة” انطلاقة جديدة لفتح، ولعملياتها اللاحقة في قلب الكيان الغاصب.

عام 1970 خرج الفدائيين الفلسطينيين من الاردن الى لبنان بقرار رعته جامعة الدول العربية، وأعادت حركة فتح تنظيم صفوفها في لبنان، وشكل وجودها رافعة للاجئين الفلسطينيين في المخيمات وخاضت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان مئات العمليات الفدائية، التي أضاءت وجه فلسطين وأسمعت حتى الصم: أن هنا شعب فلسطين وأن الظلم آن له أن يزول.

وظلت قوات الثورة الفلسطينية تطور من قدراتها وتبني مؤسساتها وتُشرِّع القوانين الناظمة لمنتسبيها، وحولت المخيمات الى معاقل للثورة، والحدود اللبنانية مع فلسطين الى ساحة مواجهة دائمة، وواصلت صواريخ “الكاتيوشا” تدق المستوطنات في شمال فلسطين يوميا.

خلال أكثر من 12 عاما تواجدت فيها الثورة الفلسطينية بكثافة في لبنان حققت عدة انجازات أهمها: الحفاظ على المنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني وتطوير دوائرها ومؤسساتها، وابقاء المستوطنات الاسرائيلية في الشمال الفلسطيني تحت مرمى نيران قوات الثورة الفلسطينية، وتبنِّي خطاب سياسي واضح للعالم أجمع لكسب التأييد الدولي للحقوق الفلسطينية، ومواجهة مشاريع الاحتواء والتبعية، والحفاظ على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، في إطار التمسك ولو بالحد الادنى من الإجماع العربي، وبناء مؤسسة قضائية وسن قوانين تنظم عمل القوات، وبناء وتطوير مؤسسات رعاية أُسر الشهداء والجرحى والأسرى، وبناء مؤسسات اقتصادية لرفد الثورة بجزء من احتياجاتها، وبناء منظومة تعليمية تحاكي وزارات التربية والتعليم، والتحالف مع الحركة اللبنانية، وبناء جبهة لبنانية مساندة للثورة الفلسطينية، وتعزيز الشراكة بين كل الفصائل على أساس ديمقراطي وباشراك كافة المنظمات الشعبية للشعب الفلسطيني في “المجلس الوطني الفلسطيني”.

ظلت حركة فتح ومنظمة التحرير في مواجهة الاحتلال وحلفائه والخطر الحقيقي أمام تنفيذ مخططاته التوسعية، وذلك لأنها استطاعت ان تكسب دعم وتأييد العديد من دول العالم، وأَن تواجه الرواية الاسرائيلية المضلِّلة والتي أساسها تصفية الوجود الفلسطيني على أرضه وتوطينه في دول اللجوء أو تهجيره الى دول اجنبية، لتمرير المقولة الصهيونية الكاذبة بأن “فلسطين أرض بلا شعب”، رغم أن هذه الأرض لم يكن لها الا هذا الشعب وستظل.

فشنت قوات الاحتلال حربًا على قوات الثورة الفلسطينية في لبنان في صيف 1982 لتدمير بنيتها العسكرية، وتصفية وجودها السياسي، والتخلص من قيادتها التي لم تَحِدْ بوصلتها يومًا عن فلسطين.

بعد 88 يوما من العدوان خرجت قوات الثورة الفلسطينية من لبنان شامخة مرفوعة الرأس الى عدة دول عربية، لكن مخطط التصفية لم يتوقف، فتم استهداف اللاجئين الفلسطينيين بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا.

واندلعت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى في وجه الاحتلال عام 1987، وتصدرت حركة فتح وفصائل الثورة الفلسطينية فعالياتها لتقلب كل حسابات الأعداء والمتآمرين وتعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية مكانتها لتبقى رقما صعبًا لا يمكن تجاوزه، وتعترف بها حكومة الاحتلال وتتفاوض معها للوصول الى حل للصراع بالطرق السلمية.

وهو ذات الأمر الذي حصل مع انتفاضة الأقصى عام 2000 وما تلاها من هبات في القدس وفلسطين كلها من مقاومة شعبية ميدانية حتى اليوم، وفعالية سياسية وقانونية وفي الرواية حتى اليوم.

إن حركة فتح التي قادت الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية المعاصرة وقادت منظمة التحرير الفلسطينية، أقامت أول سلطة وطنية على أرض فلسطين بعد الاحتلال الاسرائيلي، وحولت الأرض المحتلة رغم كل العوائق والصعوبات الى ساحة نضال ميداني وسياسي وقانوني وثقافي وإعلامي واجتماعي مع الاحتلال، محققة الانجاز تلو الآخر.

وما بين عثرات كثيرة، وتقدم تُصبح فلسطين دولة معترفاً بها وهي تحت الاحتلال، ويتم التأكيد الدائم من أحرار العالم على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وهي الحقوق غير القابلة للتصرف التي ما زالت تحظى باجماع دولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق