مقالات
240 ساعة صمت عن الكلام مروة السنهوري *إعلامية سودانية”
ثاني أسبوع من شهر سبتمبر قررت أن احزم أمتعتي واتجه إلى أعلى قمة في جبال رأس الخيمة لخوض تجربة التأمل عبر الصيام عن الكلام والعزلة عن الناس لمدة عشرة أيام.
كنت هناك في منتجع يستند إلى فلسفة عميقة ترتبط بتطبيق أسلوب تأملي تم تأسيسه في الهند قبل آلاف السنوات ، علماً أن للتأمل أنواع متعددة يصل عددها إلى 120 نوعاً.
ابتكرت هذه التقنية لمساعدة الراغبين في الوصول إلى مراحل متقدمة من التنور والتشافي، ولحماية أنفسهم من تشويش إيقاع الحياة المتسارع على صحتهم العقلية والنفسية .
كان جدول الأيام في المنتجع لا يتغير إذ يبدأ في الساعة 4 صباحاً مع صوت دق الجرس وكأنك في مدرسة تنتمي إلى القرن الخامس عشر الميلادي ، وينتهي مع إطفاء الأنوار في تمام الساعة 9:30 مساءً بعد محاضرة يلقيها كونيغا مؤسس فكرة المنتجع حول الحب والتسامح.
وقد يكون اتخاذ قراري بالعزلة في مجتمع يكرر عليك يومياً جمل مثل ” كل 6 ثواني يموت شخص لذلك عليك أن تُسرع في تحقيق اهدافك قبل فوات الآوان ” ضرباً من الجنون ومضيعة للوقت .
إلا أني كنت كغيري ممن دخلوا إلى عالم الوعي يتسائلون لماذا بعد كل ما وصلت إليه لم تكن السعادة والسكينة من نصيبي ؟ هل اهرول مُسرعة تسحقني عجلة الماديات في الطريق الخاطئ ؟.
ففي ظل هذا التقدم الرقمي المٌبهر الذي نشهده كل يوم ، وبروز مجتمع السعادة المُفتعلة ” الرغوة الهُلامية _المؤثرون ” واختراقنا حاجز الفضاء، إلا أننا لم ننجح حتى الآن في أن نخطو للأمام خطوة واحدة في اكتشاف أنفسنا أنها لمُفارقة ساخرة.
مع مرور الوقت في المنتجع استغربت من طريقة عمل دماغي فقد كان يستذكر قسرياً حوادث شهدتها في الصف الثالث ابتدائي وخلال فترة المراهقة ، واتسائل كيف لم أرد على الشخص الفلاني عندما حدث هذا الموقف ، شعرت وكأنني أمام شاشة عرض سينمايئة كبيرة اتابع منها فيلم حياتي على الأريكة.
التجربة هي ببساطة محاولة لتفكيك المواقف والمشاعر المتراكمة ، ففي الوقت الذي قد لا تعرف فيه ما الذي يدفعك للشعور بالاكتئاب والحزنفجأة ؟ أو الإحساس الخفي بالألم و عدم الأمان ؟ هناك في غرفة مظلمة تمارس فيها التأمل ستظهر لك الإجابة من العمق واللاوعي ، قد يكون السببتعليقاً محرجاً تعرضت له أمام زملائك في المرحلة الابتدائية مما دفعك للشعور بأنك أقل من الآخرين .
وغيرها من مواقف شكلت هذا الإنسان بضعفه وهشاشته وقلقه وحان الوقت للتعامل معها لتحرر وتعيش حياتك سعيداً.
الأمر اشبه بالعملية الجراحية التي تنفذ للعقل الذي تبرمج على آلية عمل معينة في التفكير فأصبح كالقرد من الصعوبة السيطرة على نشاطه يقفز من الماضي إلى المستقبل فضلاً عن التحليل العميق والتوقعات التشاؤمية ، فتضخم دوره بشكل منعنا من الاستمتاع بتجربتنا الشعورية في الحياة.
فوائد هامة استخلصها من هذه التجربة التأملية واشكر الإمارات لإستضافتها هذه المنتجعات التي تساعد الإنسان على إيجاد الحكمة والبصيرة وسط الضوضاء المادي الذي نعيشه وأجملها في أن الحرية الحقيقية تبدأ عندما ينتهي الجهل بالذات فهناك من يشعر بالسكينة والرضا والبهجة أغلب الوقت وينعم ببركة الوفرة والحب لأنه خاض رحلة مواجهة الذات وتشافى من آلامه …إذن السعادة ليست وهماً.
أحد أبرز ورطات الحياة هي التعلق المشاعري الإيجابي أو السلبي بالعالم الخارجي لذلك نحتاج للتواصل مع ذواتنا لفك التعلق ، لاتدع العالم المادي يخدع تفكيرك بأن التملك والرغبة هو سر السعادة فقد أصاب الشاعر الإنجليزي وليام بليك عين الحقيقة عندما قال ” قد ترى العالم كله في حبة واحدة من الرمل ، والسماء في زهرة برية ، والأبدية في ساعة ” .
في الختام .. لا يوجد اسوأ من عقل مؤذي يضخم ويحلل الأحداثويخفي عنك صوت القلب والروح ،المغامرة الحقيقية هي أن تقدم على اكتشاف اشراقك الداخلي وسط هذا العالم المادي الذي ينحو للجنون الاستهلاكي و يدعونا للتخلي عن حقيقتنا فإذا لم تكن سعيداًوتعيش بجودة حياة عالية أعلم أن هناك خطأ ما يستوجب تصحيحه، فالأصل في الحياة الوفرة والحب والسعادة .