مقالاتنشاطات
لحظات مع التاريخ * تاريخ الخنوع! * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * سلسلة جديدة بعنوان: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان” عنوان المقالة: ” لو قرأت التاريخ، لعلمت أنّ الخنوع لم يُورث كرامة” وهي عبارة عن: مقارنة بين لحظات التخاذل عبر التاريخ وحال الشعوب اليوم (1-9)

* لحظات مع التاريخ
* تاريخ الخنوع!
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* سلسلة جديدة بعنوان: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
عنوان المقالة: ” لو قرأت التاريخ، لعلمت أنّ الخنوع لم يُورث كرامة” وهي عبارة عن: مقارنة بين لحظات التخاذل عبر التاريخ وحال الشعوب اليوم (01)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* عيونٌ مغمضة تمشي نحو الهاوية
حين لا نقرأ التاريخ، نمشي إلى المصير معصوبي العيون، نُلدغ من الجُحر ذاته ألف مرة، ونظنّها الأولى،
وحين نقرأه ولا نتّعظ، نكون قد خُدعنا مرتين: مرة حين كُتب، ومرة حين تجاهلناه.
– لقد سجّل التاريخُ أممًا عظيمة سقطت لا بفعل قوة العدو، بل بهشاشة الإرادة، وتآكل العزيمة، واستمراء الذل، حين رضيت الشعوب بالدّون، سُلبت منها السيادة، وضاعت منها الهوية، وصارت حكاياتها تُروى في كتبٍ يقرؤها الأحرار، لا ليبكوا أطلالها، بل ليتّقوا مصيرها.
* الخنوع لا يُنبت عِزة
انظر إلى الأندلس، كيف تحوّلت من منارةٍ للعلم، إلى جُرحٍ في ذاكرة الأمّة، لم تسقط غرناطة لأنها وحدها أو كانت ضعيفة، بل لأن الأيادي المرتعشة في الداخل شرعت الأبواب، وراح بعض الأمراء يراسلون ملوك قشتالة بحثًا عن حماية مؤقتة، فضاعت الأندلس حين تفرّق أهلها، وارتضوا حياة الخضوع، بدل الموت بعزّة.
أما سقوط بغداد سنة: (656 هـ)، فليس مجرّد صفحة سوداء، بل درسٌ أبدي، لقد دخل التتارُ على أمّةٍ كانت مهيبةً يومًا ما، فوجدوا فيها شعبًا اعتاد الصمت، ونُخبًا خانعة، وجُندًا تائهين.د، ويصف ابن كثير ذلك قائلًا: “ودخل هولاكو بغداد صبيحة يوم الأربعاء… وفعلوا من القتل والنهب ما لا يُحدّ ولا يُوصَف.” ولم يكن ذلك غلبةً على السلاح، بل على النفوس المنكسرة.
* الهوان حين يُصبح عادة
ما أشبه الليلة بالبارحة، شعوبٌ مُنهَكة، تعيش على فتات الخبز، وتلبس الذلّ كأنّه زينة، تستجدي العدو، وتُصفّق للظالم، وتغضب إذا قيل لها: أنتم في هوان!
تُقصف المدن، ويُقتل الأطفال، ويُحاصر الشرفاء، ثم لا يُسمع سوى صدى الشعارات، والهاشتاغات التي لا تردّ ظلمًا، ولا تصنع نصرًا.
أيُعقل أن يُصفّق الناس للطغاة، ثم يبكون من القهر؟!
أيرضى الأحرار بأن تُنتهك الكرامة، ويُخرس الصوت، ويُشتم الدين، وهم بين التغاضي والتبرير، أو الشجب والاستنكار؟!
* من ظنّ أن الذلّ يُطيل العُمر، فهو واهم مخدوع
– كم من حاكم ظنّ أن استرضاء الأعداء يُبقيه، فابتلعته الدوائر.
– وكم من شعبٍ ظنّ أن الخضوع يُؤمّن لقمة العيش، فإذا به جائعًا ومهانًا معًا!
– قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلّنا الله.”
فأي عزة نرجوها ونحن نتزيّن بأثواب المهزومين؟!
* اقرأ التاريخ… ففيه بكاءٌ ومآل
اقرأ التاريخ لا لتبكي فقط، بل لتتجنّب السقوط.
اقرأه لتدرك أن كل أمةٍ رضيت بالخنوع، فقدت مكانتها، ولو كانت تمتلك كل أسباب القوة.
وأن كل صوت ارتفع في وجه الطغيان، ولو كان وحيدًا، صنع بداية جديدة.
قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ (آل عمران: 146)، وقال أيضًا: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ (آل عمران: 146)
فالمعيار ليس في عدد الجيوش، بل في وهج العقيدة، وصوت العزّة.
* إختر موقعك من الحكاية
في النهاية، أنت جزء من حكاية طويلة تُكتب الآن،
فإما أن تكون من الصامتين الذين قرأوا التاريخ ولم يتّعظوا، أو من أولئك الذين سطّروا تاريخًا جديدًا بالحق والصبر والكرامة.
فاختر: أن تكون صدى الصامتين… أم شرارة التغيير… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لعرفت أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2032)
* 30 . محرّم .1447 هـ
* الجمعة . 25.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
**********
* وقفاتٌ قصيرة مع التاريخ
* فساد مُمنهج.
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* سلسلة جديدة بعنوان: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لعرفت أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها” (02)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
* تمهيد: مِن نصٍّ قرآنيٍ إلى قاعدةٍ حضارية
قالت ملكة سبأ في سياق حوارها السياسي مع قومها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ (النمل: 34)، وهي لم تكن آنذاك مؤمنة بوحي السماء، لكنها كانت تنطق بفطرةٍ سياسيةٍ عميقة، أصبحت اليوم قاعدة اجتماعية يقررها علم الاجتماع السياسي.
– الاستبداد لا يكتفي باحتلال الأرض، بل يحتل الوعي، يُفسد البُنية، ويقلب معايير القِيَم، وهذا النص القرآني لا يسجل واقعة تاريخية فقط، بل يرسم سُنّةً من سنن التاريخ: كلما دخل الملوك القرى – دخول تغلّب وقهر – نشروا فيها الفساد، وأبدلوا العزة ذلًا، والكرامة تبعية،
* الفساد عبر التاريخ: من فرعون إلى ملوك الطوائف
حين تقرأ التاريخ، تجد هذه القاعدة جارية في كل عصر،
قال فرعون لقومه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ (الزخرف: 51)، فجمع بين الاستبداد السياسي والتسلط الاقتصادي والادعاء بالحق الإلهي، ثم ختمها بوصمة السفه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ (الزخرف: 54)، هذا هو قانون الحكم الفاسد: حاكم مستبد، وشعب مخدَّر، ومؤسسات منهارة.
ثم اقرأ في سقوط الأندلس، حين انشغل ملوك الطوائف بالترف والمكائد، حتى دخل العدو القرية وأفسدها، ولم يكن الفساد وليد الخارج، بل بدأ من داخل القصور،
بل إن ابن خلدون – في مقدمته الشهيرة – قرر أن الاستبداد إذا تفشّى في الدولة، أفسد العمران، وأبطل الكسب، وأهلك النفوس، وقال: “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
* مظاهر الإفساد السياسي: كيف يُنتَج الذُّل؟
الملوك الفاسدون لا يكتفون بالسيطرة على الحكم، بل يعملون على تفريغ الشعوب من روحها. فهم:
• يفسدون العقول عبر تجهيل متعمد للتعليم، وتحويله إلى آلة تكرار لا تفكير.
• ويفسدون القيَم عبر الترويج لثقافة الخوف، وتمجيد الطغاة، وتبخيس دوْر المُعارض.
• ويفسدون الاقتصاد بإهدار المال العام، وربط الخبز بالولاء.
• ويفسدون الدين بتطويع منابر المساجد لخدمة السلطان، حتى صار بعض العلماء أبواقًا للقصور، لا صوتًا للحق.
فالنتيجة؟
تمامًا كما في الآية: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾، تتبدل المواقع: يُنفى الشرفاء، ويسجن العلماء، ويقتّل من يقف في وجه الظالمين، في الوقت الذي يُكافأ فيه الانتهازيون، ويفسح لهم المجال في كل شيء، ويسخّر لهم الإعلام..
* الملوك المعاصرون: حين يلبس الفساد ثوب الحداثة
اليوم لم يتغير المشهد كثيرًا، وإن تبدلت الأزياء والكراسي.
يُمارس الاستبداد بذات الروح:
• أنظمة أمنية تعتقل الكلمة.
• إعلام ممول يزيّف الوعي.
• قضاء تابع يُدين المظلوم ويبرئ الظالم.
• ثروات تُنهب لصالح العائلات المالكة، بينما الشعوب تُقمع وتُفقر.
بل ترى بعض الحكام يسوقون أنفسهم كـ”مصلحين”، وهم يزرعون الفساد في كل المؤسسات، ثم يصدرون قرارات تجميلية كمساحيق سياسية أمام المجتمع الدولي.
* من القرآن إلى الواقع: دعوة للوعي والمقاومة
إن الآية الكريمة ليست مجرد حكاية ملِكة، بل إشعار ربّاني متجدد لكل العصور، ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾: هذه حقيقة لا تُلغى إلا إذا تغير شكل الحُكم، من مُلكٍ عضوضٍ إلى شُورى راشدة، ومن استبداد فرد إلى حُكم أمة.
والإصلاح لا يكون بالدعاء وحده، بل بالوعي، والنقد، وبناء الإنسان الحر الذي لا يبيع دينه بكرسي، ولا صوته بلقمة، ولا شرفه بمدح سلطان.
* وفي الختام: حتى لا نُذلّ بعد عِزّة
إذا أردنا ألا تتكرر مآسي التاريخ، فعلينا أن لا نكرّر أخطاءه.
فكما قال عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”
وكل حاكم يسعى لإذلال الأحرار، يُعيد سيرة أولئك الذين ﴿جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾، وسيكون مآله كمآلهم، فسُنَن الله لا تحابي أحدًا… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لرأيت كيف سقطت الأندلس بالصمت”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2033)
* 01 . صفَر .1447 هـ
* السبت . 26.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
**********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* السّقوطُ الصامت
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* سلسلة جديدة بعنوان: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لرأيت كيف سقطت الأندلس بالصمت” (03)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
* لم تسقط الأندلس فجأة، ولا انهارت قصورها في ليلة ظلماء بفعل ريح عاتية. كانت البداية همسًا في أروقة الحكم، ثم لُجْمًا للصوت الناقد، ثم صمتًا ثقيلًا تمادى، حتى صار الوجعُ عادة، والسكوتُ عبادة، والهوانُ سياسةً مقبولة!
– سقطت الأندلس بالصمت، حينما كُفّت الألسن عن إنكار المنكر، وسُحِبت الأقلام من يد العلماء، واستُبدل فقه النص بفقه التبرير، وخشي الناس سطوة الملوك أكثر من خشيتهم لله.
* الصمت عن الظلم بداية الانحدار
كانت قرطبة ذات يوم منارة للعلم، وغرناطة درة في جبين الزمان، ولكن ماذا جرى حين خفت صوت المصلحين؟ ماذا حدث حين عُزِل الصادقون، واعتُقِل الناصحون، وحوصرت المساجد، وضاعت الهيبة من المحاريب؟
إنهم صمتوا عن المظالم، فسُلبوا أرضهم، وصمتوا عن الظلم، فدُمرت حواضرهم، وصمتوا عن التفرقة، فتمزّقوا حتى نحر بعضهم بعضًا.
وحين اجتاح العدو أرضهم، لم يحتج إلى جيوش جرّارة بقدر ما استفاد من “فراغ الصوت”، ومن غياب الكلمة الحرة التي تُوقظ الضمير وتُذَكّر بالحق.
* حين يتنازع الأمراء، ويصمت العلماء
ما كان للملوك الطوائف أن يتنازعوا لولا أن صمت من يذكّرهم بالله.
ما كان لبعضهم أن يستقوي بعدوٍ صليبيّ على أخيه المسلم لولا أن رُفِعت الراية البيضاء في وجه النهي عن المنكر.
وهكذا، لم يعد للحق صوت، ولم يعد للناس ظهر يستندون إليه، أصبح السكوت مذهبًا، والتقوقع ورعًا، وتوارى أهل الكلمة خلف أسوار الخوف.
* الخذلان الأكبر: صمت الشعوب
ولم يكن الصمت خاصًا بأهل السلطة أو الدين، بل انسحب على العامة.
حين ساد الظلم، انشغل كلٌّ بنفسه، وصار همّه لقمة اليوم، لا مصير الأمة.
وحين أحرق العدو المساجد، وأباد الكتب، وأجبر الناس على التنصّر، لم يجد فيهم من يصرخ.
أصبح البكاء سرًّا، والحنين جريمة، والصوت الصادق رجعَ ذكرى في ذاكرة الغياب.
* أنين الكتب… وشهادة الورق
من يقرأ “نفح الطيب” للمقري، أو “الإحاطة” للفتوح، يسمع بين السطور بكاء المُدن، وحشرجة النهايات.
تسأل تلك الكتب: أين كنتم؟ أين كانت الكلمة الحرة؟ أين كان صوت المنابر؟
ألم يكن في الأمة رجل كأبي الحسن الششتري أو ابن حزم أو ابن العربي ليقول: كفى؟!
* ليس التاريخ للمطالعة… بل للانتباه!
إن من يقرأ الأندلس، لا يقرأ حضارة فقط، بل يقرأ “نتائج الصمت”.
يقرأ أن الهزيمة ليست فقط سقوط قلاع، بل خذلان مواقف، وخنق كلمات، وتجميد ضمائر.
وإن صمت اليوم عن الظلم، هو نذير أندلس جديدة، تُسلَب من قلوبنا قبل أن تُسلَب من أيدينا.
* الصمت الممنهج… حين يُعاد التاريخ
في الأندلس، لم يكن الصمت ارتجالًا عابرًا، بل خُطّة ناعمة بدأت بخنق النقد باسم “وحدة الصف”، ثم تكميم المعارضة بحجّة “الفتنة”، هكذا يُصنع الخضوع: حين يُخوَّن الشرفاء، ويُشرعن الجبن، ويُعاد تشكيل العقل الجمعي على مقاس السلطان.
وكم يشبه هذا ما نراه اليوم من حملات تشويه للمصلحين، وتحويلهم إلى “أعداء الداخل”، بينما يُقدَّم الصامتون على أنهم “حكماء المرحلة”، إنه التاريخ حين يُكرَّر، لا بشكل مسرحي، بل بمرارة أشد.
* درس الأندلس: لا تقدّس الصمت مهما بدا ذكيًّا
لم يكن الصمت وقارًا، بل كان موتًا بطيئًا.
ولم يكن الصمت ذكاءً، بل تخليًا عن الحق في لحظة احتياج الأمة لكل صوت.
في زمن الانكسار، لا تكون الحكمة في التواري، بل في المواجهة، لا تكون النجاة في الحياد، بل في الانحياز للحق.
فمن لا يتكلم اليوم وهو قادر، لن يستطيع أن يصرخ غدًا حين يُؤخذ صوته، وتُخرَس حنجرته، ويُقال له: “فات الأوان”.
*خاتمة
لو قرأت التاريخ، لرأيت أن السقوط لا يبدأ من سيوف الأعداء، بل من أفواهٍ لا تنطِق، ومن أقلامٍ لا تكتب، ومن عقولٍ لا تفكّر.
فإياك أن تكون من الصامتين حين تكون الكلمة فرضًا، والصوت شهادة، والسكوت خيانة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لعلمت أن الظالم لا يسقطه إلا مواجِه”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2034)
* 02 . صفَر .1447 هـ
* الأحد . 27.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
**********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* المواجهة حتميّة
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لعلمت أن الظالم لا يسقط إلا بالمواجَة” (04)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
* في دفاتر الأمم، لا يسقط الظالم برسائل الاستعطاف والاستجداء، ولا تنهار عروش الطغيان بالصمت، بل تنهار حين ينهض المقهورون، ويعلو صوت المواجهة فوق همسات الخنوع.
التاريخ – إن أنصفناه – يُرينا أن الظالم لا يعرف إلا منطق القوّة، ولا يتراجع إلا إذا ارتطم بجدار الإرادة، وتكسّر على صخرة الوعي والرفض، إنّ كل طاغية لا يسقط إلا حين يواجهه شعبٌ قرر أن يكون حيًّا.
تأمل فرعون، كيف كانت نهايته؟ أكانت بمرونة الخطاب أم بالثبات على الحق؟ لقد أخرج الله بني إسرائيل من تحت وطأته وسطوته حين واجهه موسى -عليه السلام- بثبات الواثق، ووقف أمامه متحدّيًا بقول الله تعالى: ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: 62)، فكانت النتيجة: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا﴾ (الإسراء: 103).
* ثم انظر إلى الحسين بن عليّ -رضي الله عنهما-، حين واجه من طغى عليه، وهو يعلم أن دمه سيكون شرارةً لتاريخٍ جديد، لم يسقط الظلم يومها، لكن تلك المواجهة صنعت وعيًا ما زال نابضًا، يُعلّم الأجيال أن الكلمة الحرة لا تُدفن، وأن الدم الشريف لا يضيع.
وفي صفحات التاريخ القريب، لم تتراجع الإمبراطوريات الاستعمارية لأنها استوعبت أحلام الشعوب، بل لأنها جوبهت بثورات ومقاومات لا تعرف المهادنة، الجزائر لم تتحرر إلا بعد أكثر من مليون شهيد، وجنوب إفريقيا لم تُنهِ الفصل العنصري إلا بعد سجنٍ طويل ومواجهة عنيدة قادها نيلسون مانديلا.
وهنا نعود إلى القاعدة التي يغفلها كثيرون: أن الصمت عن الظلم يُغذّيه، والتبرير له يُشرعِنه، أما المواجهة فتوقظه، وتربكه، وتُمهّد لسقوطه، لهذا قال الله تعالى محذرًا: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ﴾ (هود: 113).
* إنّ مواجهة الظالم ليست دعوة للفوضى، بل فريضة شرعية وأخلاقية، إنها موقف شجاع يصنعه الواعون، لا الغوغاء، مواجهة تبني الوعي، وتؤسس للتحرر والتحرير، لا لمجرد رد الفعل، ودغدغة المشاعر، قال النبي ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر” (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
ولهذا فلا بد من بقاء الصوت العالي، والكلمة الحرة، والرباط الصابر، الذي يقف في وجه الطغاة المتجبّرين
وهذه المواقف هي التي تمنع العدو من كسر الهوية، وتُسقِط روايته، فكل موجة مواجهة تضعف مشروعه، وكل لحظة صمت تُعطيه تمديدًا في الزمان.
فمن قرأ التاريخ حقًا، علم أن الطغيان لا يسقط إلا حين يُواجَه، وأن الذين انتصروا على الطغاة لم يفعلوا ذلك بالأمنيات وبرسائل الاستجداء، ومعاهدات الخنوع المُذلّة، بل بالمواقف الصلبة، والمواجهة الواعية، والتمسك بالحق، وعدم الانصهار في بوتقته، وعدم التماهي مع روايته… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لأدركت أن الأمة حين تتوكل على الله تنتصر”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2035)
* 03 . صفَر .1447 هـ
* الأثنين . 28.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* التوكّل المُنتِج
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لأدركت أن الأمة حين تتوكل على الله تنتصر” (05)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
* يخلط كثيرون بين التوكل والتواكل، ويُفرغون المفهوم القرآني العميق من مضمونه العملي، فيصير التوكل شعارًا يُتلى، لا منهجًا يُحتذى، ولكن لو قرأنا التاريخ بعيون باحثة، لا بعاطفة عابرة، لوجدنا أن التوكل الحقيقي كان دومًا محور الانتصارات الكبرى في حياة الأمم، لا سيّما الأمة الإسلامية.
* التوكل: منهج حركي لا موقف نفسي فقط
التوكل في جوهره ليس حالة وجدانية تستسلم للأقدار، بل هو يقين بالله يُترجم إلى فعل في الواقع. قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: 23)، فجعل التوكل علامةً على الإيمان الحق، لا بديلاً عن الأخذ بالأسباب، بل دافعًا لتحملها بثقة وإقدام، فحين قال النبي ﷺ لصاحبه في الغار: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: 40)، لم يكن ذلك أثناء تقاعس أو عجز، بل بعد إعداد دقيق لرحلة الهجرة بكل تفاصيلها.
* التاريخ شاهد على انتصارات التوكل الراشد
حين تواجهت جيوش المسلمين مع الفرس والروم، لم يكن ميزان القوة المادية لصالح المسلمين، بل كانت الإمبراطوريات آنذاك تتفوق عددًا وعدّة وتنظيمًا، لكن النصر لم يكن نتاجًا لمعجزة خارقة تُقصي السنن الكونية، بل لتكامل التوكل مع العدل الداخلي، وحُسن القيادة، ووحدة الهدف، وثبات العقيدة.
في معركة القادسية، مثلًا، لم يُهزم الفرس لأن المسلمين فقط “توكلوا”، بل لأنهم عرفوا كيف يوظفون إيمانهم لدفع الخوف، وتحفيز العقول، وتنظيم الصفوف، وكذلك في معركة حطين، لم ينتصر صلاح الدين باسم الدين وحده، بل لأنه جمع بين إحياء الروح وتوحيد الصف، والإعداد العسكري والسياسي المحكم.
* توكل الأمم: توجيه استراتيجي لا اندفاع عاطفي
عندما تتخذ أمة قرارًا مصيريًا -كالحرب أو السلم أو التغيير الحضاري- فإن التوكل هنا لا يكون مجرد رجاء في النصر، بل يُصبح بوصلة عقلانية توجه القرار نحو ما يُرضي الله ويخدم المصلحة العامة، دون تهوّر ولا جُبن، فالتوكل يدفع نحو حسن التقدير، لا تعطيل التفكير، ولذلك، نجد أن القادة الذين مزجوا بين الإيمان والعقل -كالنورسي ومالك بن نبي- لم يُفرغوا الدين من السياسة، بل دعوا إلى أن يكون التوكل إطارًا أخلاقيًا واستراتيجيًا للنهضة.
* هل الأمة اليوم تتوكل أم تتواكل؟
لنكن عقلانيين: لا يُطلب من أمة مهزومة داخليًا، متشرذمة سياسيًا، مفككة ثقافيًا، أن تنتصر لمجرد أنها ترفع شعارات التوكل، فالله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، وهذا يعني أن التوكل ليس بديلًا عن التغيير، بل دافعه ومحرّكه.
فحين تتوكل الأمة بمعناها القرآني العميق، تنهض بمؤسساتها، وتُصلح منظوماتها، وتعالج فجواتها، وتُربي أجيالها على الثقة والعمل، لا على الترديد الأجوف لألفاظ بلا أثر.
* توكل الأفراد وتوكل الجماعات
من المهم التمييز بين توكل الأفراد الذي يغلب عليه الطابع الشخصي، كتسليم النتائج لله بعد السعي في الرزق أو المرض، وبين توكل الجماعات الذي يجب أن يتحوّل إلى سياسات، ورؤية، وبناء مؤسسي، الأمة المتوكلة ليست تلك التي يكثر فيها الواعظون، بل التي تُحسن صناعة القرار، وتُنتج المعرفة، وتنهض بالأجيال بروح توكلية تُلهم العمل، لا تستبدله.
* الخاتمة: التوكل إرادة لا أمنية
التوكل ليس ركونًا، بل تحركًا باسم الله، وثقةً لا تُلغِي الحذر، بل توجّهه، فالأمة التي تتوكل على الله، لا تستقيل من مسؤوليتها، بل تُقبل عليها بيقين أن الله لا يخذل من صدق النية وأحكم الخطوة، ولو قرأنا التاريخ جيدًا، لعلمنا أن النصر لم يكن إلا حين اتحد الإيمان بالفعل، والتوكل بالإعداد، والنية بالحكمة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لرأيت كيف تصنع الشعوب مصيرها”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2036)
* 04 . صفَر .1447 هـ
* الثلاثاء . 29.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* صُنّاعُ المصير
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لرأيت كيف تصنعُ الشعوب مصيرها بأيديها” (06)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
في صفحات التاريخ، لا تنهض الأمم بالحظ ولا تنتظر “الفرج من السماء” بلا عمل، بل تصنع مصيرها حين تؤمن أن بين يديها مفاتيح المستقبل، وأن التغيير لا يُهدى بل يُنتزع.
حين أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليخرجهم من عبودية فرعون، لم يكن المطلوب منهم مجرد الإيمان القلبي، بل ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ (المائدة: 24)، وحينها قال رجلان من الذين يخافون الله: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ [المائدة: 23]، أي أن النصر يتطلب الشجاعة في المواجهة والتوكّل على الله، فلا مكان للخوف أو التردد حين تُصنع الإرادات.
وفي تاريخ العرب والمسلمين، كانت لحظات العزّ محطات ارتكاز على إرادة شعبية واعية، فحين استنهض نور الدين زنكي الناس للجهاد، لم يكن يملك سلاحًا متطورًا، بل بنى الوعي وأشعل روح الاستقلال، فمهّد الطريق لصلاح الدين، الذي لم يُحقق النصر بالقدر فقط، بل بجهد طويل وثبات.
وقد لا يُنصف التاريخ من يغفل أثر الدولة العثمانية، التي مثلت لقرون درعًا حاميًا للأمة الإسلامية، وجمعت شعوبًا متعددة تحت مظلّة الخلافة، فقد فتح محمد الفاتح القسطنطينية، ونشر العمران، وحمى المقدسات، وأرسى العدل في رقعة شاسعة، كانت تجربة عظيمة في إدارة التنوع، والدفاع عن العالم الإسلامي أمام تحديات الاستعمار الحديث.
كما نرى في تاريخ الأمم الأخرى، مثل اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، كيف تنهض الشعوب من الرماد حين تؤمن أن بناء الإنسان هو بناء المصير.
فالقرآن يؤكد: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، وهذا ليس مجرد قول ديني، بل قانون حضاري، يؤكد أن الإرادة والوعي هما أساس التغيير.
في واقعنا اليوم، تشهد شعوب كسرت القيود، أو استسلمت للعجز، وحين رفضت الشعوب الرضوخ سقطت أنظمة عاتية، وبقيت أنظمة أخرى أشدّ فتكًا حين سكنت الشعوب إلى الخوف.
من يقرأ التاريخ يدرك أن الإنسان لا يُقاد إلى مصيره، بل يسوقه بقدميه، وأن الوعي الحقيقي، لا الانتماء الشكلي، هو مفتاح صياغة المستقبل.
تجارب القرنَين الماضيين أظهرت أن مفاتيح النهضة تبدأ من الداخل، من التعليم والأسرة والمجتمع المحلي، لا من قصور السياسة فقط، فحين تنهض الفكرة في عقل المواطن، يصبح التغيير أمرًا لا يُمكن منعه، فالأوطان لا تُحفظ بالشعارات، بل بالدماء والعرق والإرادة.
والمصير ليس طريقًا مفروشًا بالورود، بل مليء بالاختيارات الصعبة: هل تختار الحرية رغم ثمنها؟ أم تستسلم للراحة في ظل العبودية؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله”، وهذه القاعدة الحضارية حية في مسار الأمم حتى اليوم.
الوقوف على مفترق التاريخ يحتّم على الشعوب اختيار موقعها: شهود صامتين، أو صنّاع فاعلين، ومن أراد صنع المصير، فعليه أن يبدأ بتغيير حقيقي، في الذات أولًا، وفي التصورات وترتيب الأولويات، فالحرية لا تُمنح، وإنما تُنتزع، والكرامة لا تُورّث، بل تُبنى بسواعد الأحرار، أليس كذلك يا سادة يا كرام؟… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لعرفت أن الطغاة لا يرحمون الضعفاء”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2037)
* 05 . صفَر .1447 هـ
* الأربعاء . 30.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
************
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* الضعف مُهلِك
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لعرفت أن الطغاة لا يرحمون الضعفاء” (07)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
إن من تأمل مسار التاريخ، سيكتشف حقيقة موجعة تكررت في كل العصور: الطغاة لا يرحمون الضعفاء، ولا يُثنيهم عن بطشهم دمعةٌ أو شكوى، ولا يردعهم ضعف المستضعفين ولا تسولهم ضمائرهم عن وقف الظلم، بل الضعف يُغري، والسكوت يُغري، والخنوع يُغري… أما الرحمة، فلا مكان لها في قواميس الطغيان.
* لغة الطغاة لا تعرف الرحمة
الطغيان لا يُخاطب بالعاطفة، ولا يُنازل بالحجّة المجردة، بل لا يفهم إلا منطق القوة والمواجهة، وكم من شعوب استسلمت في لحظات مصيرية، فدفعت ثمن ضعفها عقودًا من المهانة، لأنهم ظنوا أن تقديم التنازلات سيوقف شهوة المستبد! لكنهم لم يدركوا أن الطغاة كلما أحسّوا بهشاشة خصومهم، ازدادوا تغولًا وجنونًا.
* عِبَرٌ من صفحات التاريخ
حين اجتاح المغول حواضر المسلمين، لم يكونوا يفرقون بين شيخ وطفل، ولا بين عالم وجاهل، بل كانت المدن الضعيفة التي لم تُقاوم هي الأكثر فتكًا، بغداد، يوم أن غاب عنها القرار، وساد فيها الانقسام، دخلها هولاكو بجيشه، فقتل مليونًا، وألقى بمكتباتها في نهر دجلة، حتى تغيّر لون الماء من الحبر والدم!
وفي الأندلس، حين اختار ملوك الطوائف دفع الجزية بدل الاتحاد، واستنجدوا بأعدائهم على إخوانهم، سلّموا رقابهم، فدخل الإسبان المدن واحدة تلو الأخرى، ولم تشفع لغرناطة دموع آخر ملوكها حين خرج منها حزينًا، ولا توسلات نسائها.
وفي القرن العشرين، شاهدنا صمت العالم عن مذابح أُعدت بعناية، فقط لأن الضحايا كانوا بلا قوة تحميهم، كما في رواندا والبوسنة، وحتى في الشرق الأوسط، حيث تُباد الأسر، وتُنسف الأحياء، وتُستهدف المدارس، ثم يُطالب الضحايا بضبط النفس!
* الضعف لا يحمي.. بل يُغري
حين تغيب شوكة الأمة، يطمع فيها القاصي والداني، لا لسبب سوى أن كرامتها لم تجد من يذود عنها، ولذا قال الخليفة المعتصم حين استغاثت به امرأة: “لبيكِ”، وسيّر جيشًا من أجل صرختها، لأنه علم أن كسر كرامة الضعفاء، إن مرّ بلا رد، سيجرّ على الأمة كوارث متتابعة.
* من الاستضعاف إلى التمكين
لكن في المقابل، يحدّثنا القرآن عن معادلة مختلفة، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا… وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، إرادة الله كانت في تمكين المستضعفين، لا لبقائهم تحت السحق، لكن هذا التمكين مرهون بالإيمان، والثبات، والاستعداد للتضحية، كما فعل موسى -عليه السلام- حين ذهب لمواجهة فرعون رغم جبروته.
وقد سأل رجلٌ الحسن البصري: “ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟” فقال: “لأن قلوبكم ماتت، وهممكم فترت، وأنتم إنما تطلبون النصر وأنتم متكئون”، فليس يُعطى النصر من ركن إلى الكسل، بل من ركن إلى الله، واستعدّ للثمن.
* الخاتمة: لا ترجو الرحمة ممن لا يرحم
لو قرأت التاريخ، لأدركت أن الطغاة لا يتغيرون، لكن الشعوب هي التي تقرر مصيرها، فمن رفع رأسه، وعزّ بإيمانه، واستقام على الحق، صان نفسه ومجتمعه، أما من رضي بالدّون، فسيدفع الثمن، لا من الطاغية فقط، بل من التاريخ نفسه الذي لن يغفر له ضعفه… فماذا تقولون أنتم يا سادة يا كِرام؟ ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لعلمت أن العدو لا يحترم إلا القوي”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2038)
* 06 . صفَر .1447 هـ
* الخميس . 31.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
***********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* القُوّة تُحترم
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لعلمت أن العدو لا يحترم إلا القوي” (08)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
* لا احترامَ للضعفاء في عُرفِ الغزاة
في عالم تحكمه المصالح، ويُدار بمنطق القوة، ليس للضعيف مكان محترم على مائدة السيادة، فالعدو في كل زمان، لا ينظر إلى ملامحنا ولا إلى قيمنا ولا إلى تاريخنا المجيد إلا بقدر ما نحمل من بأسٍ، وصرامة، واستعدادٍ للمواجهة، والتاريخُ ليس خزينةَ أمجاد فحسب، بل مرآة تكشف مَن يُحسنُ إدارة صراعه، ومَن يقبل بالهوان ثم يتساءل: لماذا تُنتهك حرماتنا؟
* الصليبيون: حين كانت السيوف تفهم أكثر من المفاوضات
حين هجم الصليبيون على بلاد الشام، جاؤوا بعقلية الغزاة لا بعقلية السائح، وبدوافع دينية مغلَّفة بأطماع سياسية واقتصادية، لم يحترموا عهدًا، ولم يصونوا ذمة، بل ارتكبوا مذابح تقشعر لها الأبدان، كما في القدس سنة: (492 هـ)، حين قتلوا في ساحات المسجد الأقصى زهاء سبعين ألفًا من أهلها.
لكنّ تلك الحملات لم تتوقف إلا حين وُجدت قوة تعيد التوازن، فصلاح الدين الأيوبي لم يدخل القدس خطيبًا، بل فاتحًا، قاتل في حطين، وأرهب قلوبهم، وحين استعاد بيت المقدس لم يرتكب مجزرة، بل أطلق الأسرى، وأذن للكنائس بالبقاء، لكنه أعاد للضعف العربي شيئًا من الكبرياء، لقد احترم الغزاة القوة، وفاوضوا بعدها، لا قبلها.
* التتار: رُسل الرعب لا يردعهم إلا الحديد
التتار كانوا آلةَ دمارٍ لا تعرف رحمة، اجتاحوا البلاد كالسيل العرِم، وقتلوا الملايين، وأحرقوا مكتبات بغداد، وقطعوا رؤوس الخلفاء، أمامهم تساقطت الدويلات كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف، لكنّ التاريخ لا ينسى معركة “عين جالوت” سنة: (658 هـ)، حين خرج المظفر قطز من مصر، وسلّ سيفه، وقال قولته الشهيرة: “وا إسلاماه!”، ثم قاتلهم حتى مزّق جيشهم، وكسر هيبتهم التي أرهبت الأرض، لقد فهم قطز معادلة التاريخ: لا يُردع العدو بالمراسلات، بل بالمواجهة.
* الاحتلال الحديث: الاستعمار لا يخرج إلا تحت الضغط
حين اجتاحت قوى الاستعمار الحديث بلاد المسلمين، لم تفعل ذلك حبًّا بالتمدّن، بل طمعًا في الثروات والهيمنة، وحين خرجت، لم يكن ذلك استجابةً لنداءات شعوبٍ “واعية” فقط، بل نتيجة مقاومات شرسة، من ثورات الجزائر التي قدمت أكثر من مليون شهيد، إلى مقاومة ليبيا بقيادة عمر المختار، إلى ثورات بلاد الشام والعراق، وسائر البلاد التي دفعت الثمن لتخرج من قبضة المحتل.
الذي غادر لم يفعل ذلك مجاملة، بل لأنه عرف أن الأرض التي تحتضن أبناءها الشجعان لا تُستعمر طويلاً.
* في زمننا: موازين الردع لا تزال قائمة
حتى في عصرنا الحديث، ومع تغير أشكال الصراع، لا يزال منطق القوة حاكمًا، فإن لم تكن القوة العسكرية متاحة، فالصلابة النفسية، والتماسك الاجتماعي، والاستعداد للدفاع، تكفي أحيانًا لخلق توازن.
إنّ مشاريع السيطرة لا تُردع إلا حين تشعر أن كلفتها أكبر من مكاسبها، وأن الشعوب لم تعد قابلة للانكسار.
* قوة القيَم والسلاح معًا
لا يدعو الإسلام إلى القوة من أجل القتل، بل من أجل منع القتل، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60)، فهذه آية استراتيجية، تُرسي قاعدة التوازن والرّدع، وتُفهم العدو أن المسلم لا يرضى بالدنيّة في دينه، ولا في أرضه، ولا في كرامته.
وليس معنى القوة القتل المجرد، بل الانضباط الأخلاقي، وامتلاك زمام الردع، ورفض الخضوع المذلّ.
* خاتمة: لا كرامة بلا شوكة
لو قرأنا التاريخ بوعي، لأدركنا أن الهوان لا يُستجلب إلا بالضعف، وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتَزع.
العدو، أيًّا كان، لا يحترم الشعارات، بل الإرادة، لا يقدّر النوايا، بل الاستعداد.
من الصليبيين إلى التتار، ومن الاستعمار إلى الواقع المعاصر، لم يحترم الضعيف يومًا، بل استُذلّ. فلنعد قراءة التاريخ بعيونٍ لا تبحث عن الذكريات، بل عن البوصلة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لفهمت كيف تصنع العقيدةُ رجالًا لا يُقهرون”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2039)
* 07 . صفَر .1447 هـ
* الجمعة . 01.08.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
**********
* وقفةٌ قصيرةٌ مع التاريخ
* يقينٌ لا يُقهر
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “لو قرأتَ التاريخَ… لما قبِلتَ بالهوان”
* عنوان المقالة: “لو قرأت التاريخ، لفهمت كيف تصنع العقيدةُ رجالًا لا يُقهرون” (09)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين الصطفى وبعد:
في صفحات التاريخ، لا تصنعُ الجغرافيا الأمجاد، ولا يخلّد الثراء الأمم، بل تقف العقيدة وحدها خلف أعظم التحولات في منعطفات التاريخ، إنها ليست فكرة ذهنية عابرة، بل نار تتقد في القلوب، توقظ النخوة، وتُشعل العزائم، وتُصاغ منها معادن الرجال، وإذا نظرت إلى سِيَر الأبطال الحقيقيين، ستجد في جوهرهم يقينًا لا يتزعزع، وإيمانًا لا يُشترى، ومبدأً لا يُساوَم عليه.
* العقيدة لا تربي الأجساد بل تبني الأرواح
العقيدة ليست درعًا ماديًّا يُلبَس، بل روحًا تُسكب في الإنسان، فتصنع منه كيانًا جديدًا لا ينكسر. كم من رجل جسده هزيل، لكنه حين أشرقت في قلبه العقيدة، صار أمة تمشي على الأرض، عبد الله بن مسعود، لا يُرى في الزحام، لكنه وقف يقرأ القرآن جهرًا في وجه قريش غير هيّاب، وبلال بن رباح، عبدٌ لا يملك شيئًا، لكنه بصوته وهو يصدح بـ”أحَدٌ أحَد”، كان كأنما يزلزل جبال مكة، كانت قوة العقيدة عندهم أقوى من بطش السياط، وأمضى من سيوف الخصوم.
* رجال العقيدة لا يهابون الموت
حين تسكن العقيدة قلبًا، يخرج منه الخوف، وتُكسر قيود التردد، الموت عندهم ليس نهاية، بل بداية لحياة أسمى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾.د (آل عمران: 169) خذ مثلًا القائد سعد بن أبي وقاص، يقود جندًا قلة نحو جيش كسرى، لا بعدد ولا عدة، لكنهم يحملون يقينًا أن ظهورهم للإسلام، وقلوبهم معلقة بما عند الله، لم تكن تلك الحملات مجرد حروب، بل ثورة يقينية على كل صور الطغيان، باسم “لا إله إلا الله”، هذه الكلمة وحدها كانت كفيلة بإسقاط عروش وخلع تيجان، لأنها زرعت في القلوب العزة، وفي العيون البصيرة.
* العقيدة تصنع الصبر على الطريق
انظر إلى يوسف عليه السلام، الذي أوذي وسُجن وكُذّب، لكنه ظل ثابتًا لأن العقيدة في قلبه كانت أقوى من جدران السجن، وأعلى من إغراءات القصور، وعندما خرج، خرج رجلًا لم تكسره المحنة، بل صقلته، ليصبح عزيز مصر، ومثله الإمام مالك، الذي ضُرب حتى انخلع كتفه، لأنه رفض أن يبيع علمه إرضاءً للحاكم، لو لم تكن العقيدة تملأ قلوبهم، لانكسروا مع أول جَلدة، وانهاروا مع أول سجن.
* العقيدة ليست تعصبًا.. بل وعيًا وتحررًا
يخطئ من يظن أن العقيدة تقييدٌ للفكر أو تسطيح للعقل، لقد حررت العقيدة الإسلامية الإنسان من عبودية المادة والشهوة، ومن الخوف من الظالم، ومن وهم القوة، لذلك وقف الإمام أحمد وحده في وجه الخليفة المأمون، لأنه يعلم أن الحق لا يُقاس بسلطان، بل بمقدار قربه من الله، وهكذا لا يُقهر رجل يرى الدنيا زائلة، ويزن الأمور بميزان الآخرة.
* حين تُفقد العقيدة.. يُولد الهوان
حين تسقط العقيدة من قلب الأمة، تكثر الأصنام: صنم المال، وصنم الكرسي، وصنم الشهرة، وتتحول العقول إلى تبعيّات، والقلوب إلى خواء، لا عجب أن نرى في تاريخ المسلمين أنه ما خضعت أمةٌ إلا بعد أن خفتت في قلوبها شعلة العقيدة، الهوان لا يبدأ من الهزيمة العسكرية، بل من الهزيمة النفسية، حين يستبدل اليقين بالرّيبة، والعزة بالتبعية، وما أكثر ما نرى اليوم من شعوب تملك الجغرافيا والبترول والعدد، لكنها تفتقر إلى الروح، فتهون أمام أصغر الأزمات.
* من نور العقيدة يولد النصر
لا يُبنى النصر على السلاح وحده، بل على روح تؤمن بقضيتها، وعندما ترسخ العقيدة في جنَبات المجتمع: فتجد هناك من يحمل العقيدة، ويثبت في زمن الانهيار، فيصبح هؤلاء هم الامتداد الطبيعي لأولئك الرجال الذين كتبوا التاريخ بنور الإيمان. وصدق القائل: “إذا فُقدت العقيدة، لم يعد في الأمة ما يستحق أن يُدافَع عنه”.
* خاتمة: اقرأ التاريخ.. تعرف موقعك
يا من تتساءل اليوم عن سبب ما نحن فيه من ضعف وهوان، خذ من التاريخ مرآتك، سل صلاح الدين من أين بدأ التحرير؟ من محراب العقيدة، سل عمر بن الخطاب من أين كانت الهيبة؟ من قلبٍ لا يخاف إلا الله، اقرأ تاريخ الصحابة، والمصلحين، والشهداء، وستعلم أن العقيدة لا تصنع مجرد أفراد، بل تصنع رجالًا لا يُقهرون، وتبني أممًا لا تُذل، وترفع رايات لا تُطوى.
فيا أبناء أمتنا، إن أردتم الخروج من الهوان، فابدؤوا بإحياء العقيدة في القلوب، فمن هناك يبدأ النصر… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله: “لو قرأت التاريخ، لرأيت كيف خُدع الناس باسم الدين”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2040)
* 08 . صفَر .1447 هـ
* السبت . 02.08.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

