مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكايا من القرايا “الساندويشة”عمر عبد الرحمن نمر

رنّ جرس التنفس (الفرصة) بعد نهاية الحصة الثالثة، وخرج الطلاب من صفوفهم مسرعين، كما العصافير أفلتت من أقفاصها، الساحة مكتظّة بالطلاب، صغاراً وكباراً ومن الصفوف كلها، جماعة تلاحق بعضها، ويلعبون، ومجموعة أخرى تناقش حل أسئلة امتحان، وطلبة كبار يكسدرون بهدوء، ويتحاورون بهدوء… ومعلم يسير من منطقة إلى أخرى، وتجمع الطلبة على شباك المقصف يشترون ساندويشات الفلافل والبندورة… كانوا كخلية نحل، طردت من جرنها وتعربشت إحدى الأغصان، وكلهم ينادون على البائع، ليستلموا بضاعتهم، ويدفعوا ثمن البضاعة قرشاً واحداً… مجموعات تأكل ساندويش الفلافل، وآخرون يتحلقون حول سدر هريسة على عربة بائع… وعدد من الطلاب، الله يعينهم، ويعين أهاليهم… فقراء مفلسون، جياع ينظرون إلى أكلة الساندويشات والهرايس، ويشتمّون رائحة الفلافل، صامتون… في تلك الأيام، لم يكن الجوع سبباً لقلة فهم الدروس، أو قلة التحصيل… وكأن الجوع رفيق طريق للصغير قبل الكبير…

في هذا المشهد المزدحم بالخلائق، ناداه معلم اللغة العربية، معلم يحب طلابه، وطلابه يحبونه، كان طويلاً وسيماً… لا يترك شاردة ولا واردة في الحصة إلا سأل طلابه عن إعرابها… ناداه، وأعطاه قرشاً كي يشتري له ساندويشاً، فالمعلم لا يستطيع أن يقف بين الطلاب، ويحاشرهم لشراء ساندوشة…

ذهب التلميذ ووقف في معمعة الطلاب لشراء الساندويشة، بعد لأي استلم البضاعة، ودفع القرش، ومشى يحمل نصف كماجة فيها الفلافل والبندورة، ملّحها، ومشى… وبدأ ينظر فيها، ويفكر… وكأنه أكل جزءاً من بحبوثة الفلافل… وبدأ الجوع يوسوس له، والجوع كالشيطان أو ألعن… ماذا؟ لو؟ لو أكلتها؟ عيب… من الجائع أكثر أنا أم الأستاذ؟ أنا جائع؟ لو أكلتها، ماذا سأقول له؟ أيتهمني بالسرقة أم الفجعنة؟ عيب… لكن الجوع يقرصني أكثر من قبل… وفي لحظة ظلماء بسيطة كان يقرط الساندويشة الشهيّة، يحملها بيديه الاثنتين؛ لئلا يسقط منها شيء على الأرض… وبطنه أولى به… التهم الطعام كله، وأطفأ جوعه، وراحت السكرة وأجت الفكرة… ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول له؟ رآه يخرج إلى الشرفة، وكأنه ينتظره، كسدر المعلم على الشرفة ثم دخل… وحمل التلميذ الهمّ، ولزمه الغمّ… في الحصة الخامسة سيكون في محكمة علنية أمام طلاب صفه… سيستجوبه المعلم، ثم يحكم عليه بأنه سرسري…!

في الحصة الرابعة، لم يستمع التلميذ لكلمة واحدة من درس الرياضيات، وهو يفكر بحاله ويوسوس… ودخل معلم العربية الصف في الحصة الخامسة، وارتجف الولد، واحمرّ وجهه… أيكذب عليه ويقول سقطت منه؟ أم شلفها زميله؟ أم… وشرح معلم العربية درسه وناقش الطلاب كما العادة، وسأله إعراب كلمة، فألهمه الله الصواب وأعربها، واستحسن المعلم إجابته… وخرج المعلم بعد أن أنهى حصته، وكأن شيئا لم يكن… أيعتذر إليه؟ أيعترف بجوعه؟ بوساوس الجوع؟ أم بوساوس الشيطان الرجيم؟ في اليوم التالي، شرح المعلم درسه وهو جذل مسرور، ولم يناقش فعلة التلميذ… وفي الأيام التي تلت لم يناقش التلميذ… وانتهت الأعوام ولم يناقش…

ذات يوم، وقد أصبح التلميذ معلماً، وبالصدفة المحضة التقى بمعلمه صاحب الخير، أصرّ الصغير على دعوة الكبير إلى مطعم… تناولا غداءً محترماً… ثم إلى مطعم حلويات… ذكّر المعلم الصغير المعلم الكبير بيوم الساندويشة… وأنه لم يراجعه ولم يسأله عنها… قال الكبير: خير وصدقة ساقهما الله إليّ… فهل أرفضهما…؟ بارك الله بك يا أستاذ… وها أنت تسدّني اليوم بأكثر وألذ من ساندويشة… وضحك ضحكة حنونة عامرة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق