مقالات

برج الحمام وحنين الذاكرة

ازدهار عبد الحليم

ذكريات صديقان عاشا ولعبا بين أزقة القرية وأبراج الحمام، ودخان الطوابين، ورائحة الخبز،
أخذتهم الذكريات لبركيّة الجدة ام خليل، تلك البركيةّ، تحيط بها الطبيعة الخضراء من كل جانب والموجودة على رأس الجبل
وعندها يقف برج حمام، شامخاً يراقب الأفق، بعيون زغاليله الصغيرة
في ذلك المكان حيث يتلاقى نسيم الجبل العليل مع تغريد الزغاليل.
كان الصديقان يجلسان على حافة البركيّة، بظل شجرة التين، وهي شاهدة على ضحكاتهما وعلى قصص صادفتهما، والتي كبُرت مع كل شروق شمس، وازداد جمالها، وتزيّنها الزغاليل والعصافير التي على شجرة التين.
بركيّة الجدة ام خليل، محفورة في القلب، جمعت بين صديقان لعبا وضحكا ودرسا معاً، مزيج بين الماضي والحاضر، بين أحلام تجمدت، مع كل نسمة هواء تحمل عبق الجيل وروح الصداقة، وتذكرا دعوتها لهما للغذاء في نهاية السنة الدراسية وتحضيرهم للتوجيهي
بحكمتها العميقة، أقنعتهم بأن الزغاليل الصغيرة في برج الحمام، ليست مجرد زغاليل صغيرة عادية، بل هي شيء طبيعيي، ينشط الدماغ ويقوي الذاكرة.
بيوم العزيمة للغداء تجهّزوا الصديقان وكان يوم السبت، يوم عطلتهما المدرسية، وصلا عند الظهر قرعوا الباب. باب خشب قديم ويغلق بشنكل، فتحت الباب واستقبلتهم الجدة، امرأة عجوز عمرها بالسبعينات ظهرها منحني ورفيقتها الدائمة العكاز وعلى رأسها حطة سوداء وملامحها بيضاء كالثلج، رغم كبَر سنها في عيونها لمعة دفء، وعلى وجهها بسمة تشبه غيوم الصيف الخفيفة، جلست معهم تحت ظلال الشجرة وبرج الحمام، تحكي لهما قصصاً وأشعاراً عن الطيور، وعن صدقها ونظامها واستماعها الى تغاريد الطيور، وأن الإستمتاع لتغريدها يعزز التركيز، ينمي ويزيد من صفاء الذهن.
كان ذلك بمثابة درس غير رسمي، مزيج من التراث والحكمة، حيث تعلّموا إن الطبيعة تحمل في طياّتها أسراراً تساعد الإنسان على التعلم والنمو
صحي الجد أبو خليل من نومه ليشتري الملوخية، وأبو خليل منحني الظهر وسند حاله على عكازه رفيق دربه، لبس القمباز والحطة والعقال، وراح على الدكان لشراء الملوخية، مع إنه منحني ظهره لكن خطواته تشهد إنه مهما كبُر ما زال هو سند الدار. والجدة طلبت من حفيدها يلتقط الزغاليل من البرج للذبح، صعد المسكين السلّم وهو متردد وخائف، وما عرف يمسك الزغاليل، ساعده صديقه، وفي تلك الأثناء الجدّة جهزّت السكّين تنتظرهما، قال حفيدها لا يا ستي بخاف أذبح، وصديقه هزّ رأسه وأنا كمان بخاف، والجميع انتظروا الجد أبو خليل.
رجع من الدكّان وذبح الزغاليل، والصديقان بهدوء أعصابهما وقلبياً تذمرا ضيعا يوم دراستهما من أجل لقمة ألأكل، واحترام كلمة الجدة، والتزما بالعزيمة ولبّا دعوتها، فدعائها لهما بالنجاح بلسم للقلب، طمأنينة للروح فلطالما كانت دعواتها مستجابة، بهمتها البطيئة نظّفت ريش الزغاليل بيديها المرتجفة، بينما هما قطفا أوراق الملوخية وأشعلت بابور الفتلة بصوت خافت وبدأت تطبخ على مهل كما تطبخ الذكريات، غلبهم النعاس وأخذا قيلولة وناما نوم عميق وهادئ ومع نسمات الهوا بترد الروح.
وصحيا من غفوتهما على عبق الملوخية وتقليه الثوم، وحفيدها ضحك وقال يا ستي ريحة الأكل بصحي الميّت، ضحكت الجدة وهي تقلي الثوم، وقالت قوموا غسلوا، الغداء جاهز، زغاليل اليوم غير شكل من تحت دياتي، نظرا لبعض وابتسما، عبق الأكل أعطى لليوم معنى
وبعد الغداء خرجا بعزيمة متجددة، حملا في القلب، حب الحياة والطبيعة، مستعدان لمواجهة تحديات الدراسة بذاكرة نشيطة وعقول يقظة
يا الله على البراءة قديش الدنيا حلوة بعيونهم الصافية
يا الله قديش كانوا كبار كيف احترموا الجدة بالرغم من صغر سنهم
بكل حنية وبطئ خطواتها، وكرمها، وصبرا على تجهيز الغداء على بابور الفتلة وتقليه الثوم وعبقها، كما قال المثل الصبر مفتاح الفرج
وأن الانتظار بأمان يلقى في قلبه راحة لا توصف، والوصول إليه إلا الأقوياء بقلوبهم لا بعضلاتهم، وهم فخورين بطول بالهما وصبرهما
الصبر الذي علمتهم إيّاه الجدّة من غير كلام، علّمتهم بحضورها بنظراتها، بملامح وجهها
أمكنهم إتقان مصير حياة كاملة، كانت أيامهم مليئة بالحكايات، التي زرعت فيهم الوعي وغرست في أرواحهم القدرة، على اتخاذ القرارات، رجال يمتلكون القيمة والثقة، العلم والصبر هذه صفات الشخصية الكاريزمية، المتألقة والهادئة، الخالية من وسائل التواصل والنقل السريعة والتي دمرت أجيال، من ناحية السرعة، والتفاخر بملذّات الحياة التي نعيشها، كل يوم نسمع أخبار مؤلمة، حوادث طرق، جرائم، وموجات كثيرة من القلق وسط هذا الصخب
ونادراً ما نرى وجود شباب يحملون صفاء القلب وثبات العزم كما فعل هذان الصديقان. لم يستسلما لتيار العصر السريع، بل صنعا طريقاً مليئاً بالقناعة وأتقنا سر النجاح، فمن يتقن الصبر
يستطيع أن يتقن كل شيء في حياته.
كما يقال:” فاقد الصبر كقنديلٍ بلا زيت”…
وهما بإصرارهما أثبتا أن النجاح، ليس لمن يركض بسرعة بل لمن يعرف متى يتوقف، وكيف ينتظر، ومتى يتقدم تعلمنا منهما، أن هذا العصر الذي امتزجت فيه العجلة بالعصبية، لم يعد خياراً، بل هو ضرورة للبقاء بثبات وأمل، هذا هو الشيء الملفت، حضور الجدة القوي رغم بساطتها وبطئها، وتفاصيل الحياة اليومية، مثل ذبح الزغاليل طبخ الملوخية وبابور الفتلة … كلها عناصر تراثية أصيلة
وشعور الصديقان بالخوف على واجباتهما المدرسية، وأضافا بعداً إنسانياً وطريقتهما الإنسانية والعفوية بدون تصنع
قلم ازدهار عبد الحليم الكيلاني
اهداء الى الأخ الغالي
راغب كيلاني

إغلاق