مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية #ينتهي_مال_الجدّين_وتبقى_صنعة_اليدين الجزء الثاني

مرّت الأشهر ،وتعوّد الأمير على حياة البؤس ،وكان أمل الرّجوع إلى فتاته هو ما يدفعه إلى العيش ،ورغم أنّ مصر كانت في ذلك الوقت بلادا عظيمة وقبلة التّجار،إلا أنّه لم يكن يخرج كثيرا، وكلّ وقته يقضيه في العمل . وكان لسلطان مصر إبنة شابّة على وشك الزّواج ،وصار يجهّزها ،ويشتري لها النّفائس من ذهب وحرير ،وعطور، ولا يبخل عليها بشيئ ،وفي أحد الأيّام كان جالسا مع إبنته ،فجاءه تاجر من المغرب يعرض بضاعته، فرأت الأميرة سوارا من الذّهب مرصّعا بالألماس ،ولمّا أخذته تعجّبت من دقّة صنعته ،وطلبت من أبيها شراءه لها ،فقال لها التاجر :إنّه يليق بمولاتي لكن ثمنه خمسة آلاف دينار ، فلم يتردّد السّلطان، ورمى صرّة كبيرة من الدّنانير ،وقال له : هذا ثمن بضاعتك وزيادة، وإعلم أنّه لا شيئ يغلى على الأميرة زهرة البنفسج ، فخرج التّاجر ،ودعا له بطول العمر .
لمّا سمعت نساء الحاشية وبناتهنّ بجمال ذلك السّوار جئن لمشاهدته، لكن سقط فجأة من يد إحداهن ،وإنشطر إلى إثنين ،فبدأت الأميرة بالنّواح ،وغضب السّلطان جدّا ،وإستبدّ الهلع بالنّساء ،لكن الوزير قال :لا داعي للقلق يا مولاي سأرسل في طلب كبير الصّاغة وهذا اليهودي أعلم الناس بالذّهب في مملكتك !!! لمّا مثل عمران في حضرة السلطان، مد له السّوار، وقال له : أمنحك أسبوعا واحدا لإصلاحه ،إن نجحت أكرمتك!!! لكن إذا أخفقت جلدتك في وسط المدينة حتى تظهر عظامك ،هل فهمت ؟ خاف اليهودي فصنعة هذا السّوار غريبة عنه ،لكنه ردّ: الأمر والطاعة ،سأفعل كلّ ما يريد مولاي !!! خرج عمران وهو يرتجف من شدّة الذّعر، وقال في نفسه :إن لم أجد حلا هلكت ،وطاف بالسّوق حتى حفيت قدماه ،وفي الأخير وجد رجلا، قال له هذه صنعة المغرب !!! و ي لا يتقنها إلا أمهر الصّاغة عندهم
رجع اليهودي إلى دكّانه مغموما ،وقد ضاقت الدّنيا في وجهه ،ورمى القرطاس الذي فيه السّوار أمامه ،وجلس يفكّر ،رآه الولد ،فقال له: مالي أراك حزينا يا خال ؟ أجابه الشيخ : لقد طلب مني السّلطان إصلاح حلية لإبنته ،لكني لا أعرف هذه الصنعة ، لقد قلت لي أنك من بلاد المغرب فهل رأيت هذا السّوار قبل ذلك ؟ فلما فتح الأمير القرطاس إندهش كثيرا فهو من بضائع أبو رباب ،أجابه :صانعها هو من علّمني الصّياغة ،وسأصلحها لك غدا إن شاء الله !!! لم يصدّق اليهودي ما سمعه ،وقال له : خذ لك يومين أو ثلاثة ،فأنا أحبّها خالية من العيوب ،أجابه: لما تقفل دكانك غدا ستجدها كما كانت في الأصل .في الصباح خرج اليهودي في بعض شؤونه، ولمّا رجع في المساء وجد السّوار على منضدته ،فأخذه وقلّبه فلم ير أثرا للكسر ،فقال في نفسه هذا الولد أمهر ممّا كنت أعتقد ، سأزيده دينارا آخر في الشّهر !!! ،وخرج من ساعته على قصر السّلطان .
حين وصل طلب رؤيته ،فقال له الحرس: ألا تنتظر حتى الصّباح ؟ردّ عليهم أتيت من بعيد ،وما عندي يهمّ الأميرة !!!كان السلطان يتعشى ،ولمّا قام إليه ،رأى البشر على وجهه ،فصاح : هل أصلحت السّوار ؟ أجاب عمران : لقد أمضيت يومين بلياليها ،حتى أرجعته كما كان ،وأخرج له السّوار ففحصه السّلطان وقلّبه ،ثمّ سأله : هل أتيتني بواحد جديد ؟ ضحك عمران حتّى بانت أسنانه الصّفراء :وأجابه : بل هو سوار الأميرة يا مولاي ،قال السّلطان :والله لن تذهب من هنا قبل أن تأكل على مائدتي . لما رأت الأميرة سوارها فرحت وقبّلت أباها وأمّها ، امّا اليهودي فجلس ، ومدّ يديه إلى إوزة مشوية ،فأكل حتى شبع ،ثم أخذ جرّة من نبيذ التّمر ،فملأ قدحه المرّة تلو الأخرى حتى أتى عليها ،والملكة تتعجّب من قلة أدبه على مائدتها، لكنها صمتت ،فهذا اللئيم أدخل الإنشراح على إبنتها الوحيدة ،وأعاد البسمة إلى شفتيها .
لمّا إنتهى الطعام دارت أقداح القهوة والحلوى بالفستق والورد ،فإنبسط اليهودي ،وفي النهاية أعطاه السّلطان صرة فيها ألف دينار، وجرابا مليئا بالطعام له، فرجع إلى داره والدنيا لا تسعه من الفرح، فبفضل ذلك الولد الغريب أصبح من أعيان القصر ،لكن لم يفكّر في إعطائه شيئا ،وكان جمال الدين يشمّ رائحة الإوز والبطّ المشوي أما هو فنصيبه كان رغيف جافا وصحفة بها زيت وزيتون ،فابتلع ريقه ،وجلس في ركن يتذكر العزّ الذي كان فيه ،لكنّه أكل طعامه، وحمد الله،فله على الأقل سقف يأويه ،وكسرة يأكلها ،وهناك من هم اسوأ منه .
كانت بنت السلطان تضع سوارها ،وتتباهى به أمام جواريها ووصيفاتها ،فقلن لها : ضعي واحدا آخر ،وسيكون الأمر رائعا !!! فتساءلت لم لا ؟وأعجبتها الفكرة ،فذهبت إلى أبيها وقالت له : إن كنت تحب إبنتك فاشتر لها سوارا آخر ،هل ترضى أن يبقى المعصم الآخر فارغا ليلة عرسي؟ أجابها : ومن أين آتيك به يا إبنتي ،فهو ليس مصنوعا في بلدنا ،وتلك الصّنعة لا يتقنها إلا قلة من الصّاغة!!! ثم فكّر قليلا ،وقال : إئتوني باليهودي !!!فمن أصلح السّوار المكسور ، يمكنه صناعة واحد مثله، ولما حضر عمران ،أعلمه بطلبه ،فخاف حتّى كاد يسقط أرضا ،وقال : ويحي !!! اليوم سينكشف كذبي أمام السّلطان ،وعقابه سيكون شديدا …

يتبع الحلقة 3

فصص وحكايا العالم  الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق