مقالات
«سبوتلايت» للأمريكي توم ماكارثي: تحرّش الرّهبان بالأطفال على صدر الصفحة الأولى!
هذا فيلم عن تقرير صحافي في جريدة أمريكيّة، ونال جائزة البوليتزر. الفيلم الذي يحكي عن القصّة من بدايتها لن يكون أقلّ أهميّة من التقرير في خدمة القضية التي طرحها الأخير. فلا نحدّد الفيلم ضمن إطار سينمائي في نقل قصّة ما، بل هو مساهمة في إعادة طرح القضيّة التي طرحها التقرير، والتي يُشار إليها بين وقت وآخر في بلد وآخر، وهي البيدوفيليا في الكنائس، أو التحرّش الجنسي للرُّهبان بالأطفال.
فيلم «سبوتلايت» (بقعة ضوء – Spotlight) من إخراج الأمريكي توم ماكارثي الذي طرح كذلك في فليم سابق له «الزائر» في 2007 مسائل إنسانيّة كالهجرة والعنصرية والاندماج. هنا كانت المسألة محليّة تخص مدينة بوسطن، بالقدر الذي هي فيه عالميّة، واللائحة الطويلة للاعتداءات الجنسية التي مارسها رهبان في بلاد ومدن مختلفة التي انتهى بها الفيلم، تشير إلى ذلك، وإن كان التقرير الصحافي الذي فضح الممارسات هذه كان محدَّداً بأسماء رهبان ضمن بوسطن فقط.
لذلك لا يكتفي الفيلم بكونه روائياً مبنياً على أحداث حقيقيّة، بل هو وثيقة بصريّة للقضية التي طرحها من ناحية، وهو من ناحية أخرى وثيقة تعليميّة في كيفيّة العمل على التحقيقات الصحافية.
يتم تعيين مدير جديد لجريدة «بوسطن غلوب»، في أحد الاجتماعات الصحافية يشير إلى عمود صحافي تناول عمليّة تحرّش قديمة من راهب بطفل، اقترح متابعة الموضوع اليوم، أين وصل وهل من تحرّشات أخرى. تكلّف بالقضيّة فريق تحرٍّ خاص في الصحيفة اسمه «سبوتلايت»، وبدأ الفريق المكوّن من أربعة صحافيين بالبحث متّخذين الوسائل الممكنة، المتاحة وغير المتاحة. لأنّها حقيقية ولأنها كذلك حكاية تقرير هزّ المجتمع الأمريكي، كانت الحكاية تتطور بشكل تصاعدي وممتلئ بالانعطافات والمطبات، أبواب تُغلق وأخرى تُفتح، لكنّها تطوّرت إلى اليوم الذي تم فيه نشر التحقيق، وبشكل قريب من التحقيق البوليسي في جرائم متسلسلة، إنّما المرتكب هنا مؤسسة وليس فرداً، ومؤسسة لها نفوذها حتى على السلك القضائي، هي الكنيسة الكاثوليكية.
وكان الصحافيون الأربعة يعملون على تجميع المعلومات بشكل موازٍ، كل على حدة، زيارات إلى محامين ومكاتب أرشيف ومقابلات مع ضحايا وغيره، ليجتمعوا في مكاتبهم كي يشبكوا ما جمعوه ويخرجوا بأسماء جديدة وحلٍّ جديد لعقدة ستلحقها عقدة غيرها. إلى أن يتم أخيراً طباعة عدد الجريدة مع التحقيق على صدر صفحته الأولى. يقوم ببطولة رئيس الفريق، روبي، مايكل كيتن الذي أدى دور البطولة في فيلم «بيردمان» صاحب أوسكار أفضل فيلم العام السابق، أمّا الصحافي الأكثر تأثيراً في الفريق فأدى دوره مارك روفالو، والفيلم عُرض في مهرجاني فينيس وتورونتو الأخيريْن، ومرشّح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم وأفضل مخرج وغيرهما. يقول أحدهم في الفيلم بأنّه يلزم قرية كاملة لتربية طفل ويلزم قرية كاملة للتحرش بطفل. الدلالة هنا إلى السلوك الجماعي، إلى المجتمع المُؤتمَن على الأطفال الذين يكبرون فيه، لكن تحديداً، وفي الفيلم، إلى المجتمع كمسبب أساسي لحالات التحرّش تلك، لتكرارها على مدى سنين، والمقصود هنا سكوتها. هنالك جملة تتردّد أكثر من مرة في الفيلم، وهي أنّ الجميع كان يعرف ما يحصل لكن أحداً لم يتكلّم، الجميع سكت وكان بذلك مسؤولاً عن تمادي الرهبان في اعتداءاتهم.
ولم يكن سهلاً الحديث، فالكنيسة الكاثوليكيّة هي المؤسسة الأقدم في البلد ومن بين الأكثر تأثيراً، والتحقيق الصحافي لم يكن يستهدف رهباناً بعينهم (ما يقارب التسعين راهباً متحرشاً في بوسطن وحدها) بقدر ما كان يستهدف المؤسسة، وهذا ما أراده المدير الجديد للجريدة: استهداف المؤسسة من أعلى الهرم إلى أسفله، وهذا ما جعل التحقيق يستغرق سنة كاملة من البحث وتأجيلاً متكرّراً لنشره، حتى لا يتركوا ثغرة يمكن للكنيسة، المقرّبة من القضاء، أن تحاكمهم من خلالها. وكان، ليتم ذلك كلّه، لا بد من عنصر خارجي يرى في السكوت «الكاثوليكي» عن ذلك غير عادي، فكان المدير اليهودي القادم من خارج بوسطن كلّها، والمحامي الأرمني، كعنصريْن أساسيين في إنجاز التحقيق.
للفيلم، حكائياً، تسلسل مقنع، وكل نقطة فيه جاذبة لما بعدها وتمهّد لها، كي تكون نتيجة التحقيق طبيعيّة. والفيلم، صحافياً، درساً في المهنة يستوجب المُشاهدة