
عندما نصوّر الغرق بدل أن نُنقذ الغريق
لم يعد الإنسان هو محور الحدث… بل الكاميرا.
في لحظة كان يمكن أن تكون لحظة نجاة، تحوّلت إلى لحظة تصوير.
في ثانية كان يمكن أن تُمد فيها يد لإنقاذ شاب، مُدّت عشرات الأيدي فقط لرفع الهواتف.
وفي مشهد كان ينبغي أن يكون صرخة إنسانية، أصبح مادة للترند، والمشاركة، والتعليق، وجمع الإعجابات.
حادثة جسر الزرقاء — بغضّ النظر عن تفاصيلها الدقيقة — كشفت لنا شيئًا أخطر من الغرق نفسه:
كشفت لنا غرق الضمير الجمعي.
لقد رأينا إنسانًا يصارع الموت، بينما كان آخرون يصارعون بعضهم على زاوية تصوير أفضل، وعلى توقيت نشر أسرع، وعلى عدد مشاهدات أعلى.
لم يكن الخطر في الماء فقط، بل في البرودة التي أصابت القلوب.
متى أصبح الهاتف أهم من الإنسان؟
السؤال الحقيقي ليس: لماذا غرق الشاب؟
بل: لماذا لم يتحرّك من حوله؟
لماذا أصبح توثيق المأساة أهم من منعها؟
ولماذا صرنا نعتقد أن نشر الظلم يعفينا من مسؤوليته؟
أن تصوير الكارثة يعفينا من محاولة إيقافها؟
صرنا نخلط بين “الشهادة على الحدث” و”التواطؤ بالصمت”.
نخلط بين الوعي الرقمي والوعي الأخلاقي.
نظن أن نشر الفيديو عمل إنساني… بينما العمل الإنساني الحقيقي كان في الماء، لا خلف الشاشة.
نحن لا نعيش عصر المعرفة… بل عصر التبلّد
لسنا في أزمة معلومات، نحن في أزمة إحساس.
نحن نعرف أن الغرق خطر.
نعرف أن الإنسان يستغيث عندما يلوّح بيديه ويختفي ويعود للسطح.
نعرف أن الثواني تصنع الفرق بين الحياة والموت.
لكننا — رغم المعرفة — لم نتحرّك.
وهنا تكمن الفاجعة الأخلاقية:
أن تعرف ولا تفعل.
هذه ليست جهلاً تقنيًا، بل جهل قيمي.
ليس نقص وعي، بل نقص ضمير.
حين تصبح اللايكات أغلى من الأرواح
اللايك لا يحيي إنسانًا.
المشاركة لا تسحب جسدًا من الغرق.
التعليق الحزين لا يُعيد روحًا إلى جسدها.
ومع ذلك، صرنا نتصرف وكأن هذه الأزرار الرقمية تؤدي وظيفة النجدة.
كأننا نستبدل الفعل الحقيقي بفعل افتراضي.
كأننا نشتري راحة الضمير بزر “إعجاب”، ونظن أننا أدّينا واجبنا.
لكن الحقيقة قاسية:
نحن لم نفشل في الإنقاذ فقط، بل فشلنا في أن نكون بشرًا في اللحظة التي احتاجتنا فيها الإنسانية.
هذا المقال ليس اتهامًا… بل نداء
ليس الهدف جلد المجتمع، بل إيقاظه.
ليس الهدف الإدانة، بل التصحيح.
نحن بحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتنا:
- أن يكون الإنسان قبل المحتوى
- أن تكون النجدة قبل النشر
- أن يكون الضمير قبل الترند
نحن بحاجة أن نُعلّم أبناءنا أن أول رد فعل أمام الخطر ليس إخراج الهاتف، بل مدّ اليد.
أن نُعلّمهم أن البطولة ليست في عدد المتابعين، بل في عدد الأرواح التي ساعدناها.
الخلاصة
ربما مات الشاب غرقًا في الماء…
لكن الأخطر أننا نغرق جميعًا في اللامبالاة.
وإذا لم نُدرك أن الإنسان أهم من الصورة، وأن الحياة أثمن من اللايك،
فإننا سنستيقظ يومًا لنجد أننا وثّقنا كل المآسي… ولم نمنع أيًّا منها.
وهذا، في حد ذاته، مأساة أكبر

