مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية قيم تُحيي الأمم: “بناء الشخصية وأثرها في نهضة المجتمع” (3)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* العدل والإحسان: ميزان العلاقات الإنسانية
تُعدّ العلاقات الإنسانية من أهم ركائز المجتمعات، فهي الإطار الذي تنسج فيه القيم الأخلاقية والروابط الاجتماعية، ومن بين القيم التي تضمن استقرار هذه العلاقات وازدهارها، يبرز العدل والإحسان كمبدأين أساسيين لتحقيق التوازن والانسجام في المجتمعات.
– العدل أساس الاستقامة
العدل هو القاعدة التي تُبنى عليها حقوق الأفراد والجماعات، وهو ما أمر به الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90). فالعدل ليس مجرد قيمة أخلاقية، بل هو نظام حياة يحفظ الحقوق ويمنع الظلم، ويشمل العدل المساواة في المعاملة، وتحقيق الإنصاف بين الناس بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين.
والعدل في العلاقات الإنسانية يظهر في كل مستوى من مستويات المجتمع، ففي الأسرة، يحقق العدل التوازن بين حقوق الآباء والأبناء، وفي العمل، يضمن المساواة في الفرص والمكافآت، بل إن العدل يمتد ليشمل العلاقات الدولية، حيث ينبغي أن تُبنى على أساس احترام الحقوق وعدم الاعتداء.
-الإحسان فوق العدل
الإحسان هو القيمة التي تكمّل العدل وترتقي به، حيث يتجاوز الإحسان حدود الواجب إلى رحابة الفضيلة، يقول النبي ﷺ: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء” (رواه مسلم). والإحسان يشمل الإتقان في العمل، والمعاملة بالفضل بدلاً من الاقتصار على الإنصاف، والعفو عن المسيء رغم القدرة على العقاب.
الإحسان في العلاقات الإنسانية يظهر في حسن الظن، والتغاضي عن الزلات، والوقوف مع الآخرين في أزماتهم. والإحسان هو ما يزرع المحبة بين القلوب، ويجعل العلاقات الإنسانية تزدهر. فعندما يتحلى الأفراد بالإحسان، يصبح المجتمع أكثر تماسكاً ورحمة.
– التكامل بين العدل والإحسان
العدل يضع الأسس ويحدد القواعد، بينما الإحسان يضفي البهجة ويعمّق الروابط، ولهذا، فإن الجمع بينهما ضرورة لبناء علاقات إنسانية متينة، فلا يكفي أن نطالب بالعدل في المعاملات، بل يجب أن نطمح إلى الإحسان الذي يحقق السعادة والأمان النفسي.
وعلى سبيل المثال، إذا أخطأ صديق في حقك، فإن العدل يقتضي أن تطالبه بالاعتذار، ولكن الإحسان قد يدعوك إلى العفو عنه دون قيد أو شرط، وإذا كنت ربّ عمل، فإن العدل يفرض عليك دفع الأجور في وقتها، أما الإحسان فيدفعك إلى تحسين ظروف العمل ومراعاة احتياجات العاملين.
– العدل والإحسان في ضوء التاريخ
وفي هذا السياق، يمكننا أن نرى أثر العدل والإحسان في بناء العلاقات الإنسانية المستقرة من خلال قصص التاريخ الإسلامي، فعندما أمر النبي ﷺ أصحابه بالعدل في أحكامهم وبتقديم الإحسان، كان لذلك أثر كبير في استمالة قلوب الناس للإسلام. ومن أبرز الأمثلة قصة فتح مكة، حيث عفا النبي ﷺ عن أهلها قائلاً: “إذهبوا فأنتم الطلقاء”.
– أثرهما في الحياة الأسرية والاجتماعية
إن الجمع بين العدل والإحسان يحقق التوازن النفسي والاجتماعي، فالعدل يعطي لكل فرد حقه، والإحسان يضيف إلى ذلك لمسة إنسانية تجعل القلوب أكثر قرباً، وهذا يظهر بوضوح في القِيَم الأسرية، حيث يُطلب من الوالدين العدل بين الأبناء، ولكن مع الإحسان في التربية والرعاية.
– نحو مجتمع مزدهر
إن المجتمعات التي تتبنى هذه القيم ليست فقط أكثر استقراراً، بل تكون أيضاً أكثر قدرة على مواجهة التحديات، فحين تسود روح العدل والإحسان، تقل النزاعات ويزيد التعاون، ما يتيح للجميع المشاركة في بناء مستقبل أفضل.
– ختاماً
العدل والإحسان هما الميزان الذي يضمن توازن العلاقات الإنسانية، فبالعدل تُصان الحقوق، وبالإحسان تُبنى جسور المودة، وإذا أرادت الأمم أن تنهض وتزدهر، فعليها أن تجعل من العدل والإحسان نِبراسًا في كل شؤونها، أفراداً ومجتمعات.
عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: الإخلاص في العمل: مفتاح النجاح الفردي والجماعي
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، وفرّج الله عن أهلنا المستضعفين إن شاء الله
مقالة رقم: (1833)
06. رجب . 1446هـ
الأثنين .06.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)