مقالات
أحمد بشير العيلة وكائنات البعد الخفي..
إبداع أحمد بشير العيلة يتأتى من خلال التفاتاته الثاقبة إلى العلاقة بين موضوعات تكاد تفترق عند الوهلة الأولي، بيد أنها تتبدى في عين إبداعه متقاربة حد الالتصاق ولكن من جهات غير تلك التي نرقبها، ويذكرني هذا بفكرة الكرة التي تخفي خلفيتها ما لا يبديه وجهها.
رصد أحمد في سرده هذا الاتساع للأمور الدقيقة يجعله في غنٍ تام عن حالة التسطيح التي تحياها كائنات الواقع المعيش، حيث تتكور في سرده تلك النويات على غرار كرة الثلج التي يدحرجها ذهنه وصولاً إلى الاحتضان العظيم.
ويذكرني هذا بقول ديفيد هيوم في المقالات الادبية والاخلاقية والسياسية :” إن رفاهية الذوق ليست مجرد القدرة على كشف المكونات في تركيب ما، ولكن أيضاً في حساسياتنا للألم واللذة “.
عند هذه النقطة يفترق الشعر عن النثر لدى أحمد العيلة ، فالشعر خيال مجنح لو نزل إلى الأرض يفقد ألقه، أما السرد فمعجون برغيف الخبز ومخلوط بتراب الأرض.
يكتب أو يصور أولئك الذين يتسللون في بهيم الليل إلى أسطح منازلهم كي يبثوا شجوهم إلى النجوم محملة بأحلامهم البسيطة، البسيطة في كل شيء، في الحب وفي الحلم وحتى في الموت تأوهاً.
يبدع الأديب حين يغمس مداد قلمه في المسارات غير المحمية بالأسوار وكلاب الحراسة، في المسارات التي تتفيأ الأسوار وتتقاسم كسرات خبزها مع قطط الشوارع.
يبدع الأديب حين يسرج مصباحه ويكتب عن المهمشين قصص لم تكتب بعد، حيث يدون المنسيين أحلامهم المؤجلة ويرسم ابتساماتهم وهم يمضغون علكة بؤسهم.
يمتلك السارد بوحي من إبداعه طاقة التجول في أحلام الطيبيين، في أحيائهم، في مرابعهم، في لقاءاتهم، بين دموعهم، في بوتقة أحزانهم.
والواقع .. أن عصرنا لم يعد بحاجة إلى تلك المفردات المجنحة، ولا التعابيير المسكوكة مما توارثناها في كتب البلاغة .
علينا أن نبدع في إطار الأبجدات التي نعاصرها، نعايشها، نجترها، بحيث ننتج تراكيب تفضي إلى دلالات أقل ما فيها معاصرة لهواجسنا.
فلم تعد الأنثى ( سعاد ) التي تبتل في حضرتها الفؤاد، ولم يعد الرجل ( أبي زيد الهلالي ) سيد الفيافي، بل تقاصرت العماد، وصار للسهاد مسارت مختلفة. حيث أحنى ثقل الزمان ظهر ( مريم )، وشققت سنوات الشتات قدمي ( عبد الكريم ) ، وأنجز ذلك غربة تعايشت مع ( كمال ) قد تعايشه معها.
أعطت تلك الأشياء الصغيرة والمغمورة لأحمد بشير العيلة مدد السرد الذي جسده في إنسان هذا الزمن بكل أحلامه وانتصاراته وهزائمه، اجتنب أحمد الثرثرة وتجاوزها وهو يطبطب على قلوب مزقتها غربتها فصار شوقها إلى الفكاك أكثر وأهم من شوقها إلى إحياء ليلة رأس السنة.
ما لفت انتباهي هو أن سرد أحمد بشير العيلة لا تستبد به اللغة، بل تجده يخفف من وطأتها ويتسرب من قيودها تسرب الماء من قبضة اليد إلا قيلاً
فقد نحت أحمد في ( حارس القرون السبعة ) من صخور الأبجدية مفردات سهلة أمكنتنا من مسايرة ومعاصرة أحداث روايته تماما كما كنا نتعايش مع حكايات جداتنا حين يذهبن بنا إلى الفراش. فسرد أحمد أقرب ما يكون إلى أحلام الفقراء حين يعضهم الجوع، حين لا تقطع لهم سكين الجزار قطعة لحم يرقبونها في حافظة الألومنيوم، قدر ما هو ماعون تناقله العجائز من مكان إلى مكان في أكواخ الصفيح اتقاء للقاطر.
هذا هو ظني في كل أعمال أحمد بشير العيلة وعلى وجه التخصيص في روايته التي هي صورة ودلالة تتمازجان وتتبادلان أدوار التعبير لتنتجان عمل إبداعي قريب منا، يعيش فينا، معاصر لنا، مع ظل شفيف من جمال اللغة وألقها يحيك بها أحمد نسجه الإبداعي.